رهانات خاطئة في ميانمار

رهانات خاطئة في ميانمار

07 فبراير 2021

جنود يقطعون الطريق المؤدي إلى البرلمان في عاصمة ميانمار (1/2/2021/فرانس برس)

+ الخط -

منذ استقلال بورما (ميانمار) سنة 1948، تقدّم القوات المسلحة نفسها الضامن الوحيد لسيادة البلاد ووحدتها الوطنية. وحتى عندما لم يكن الجيش في سدة الحكم بشكل رسمي، فقد كان مع ذلك يلعب الدور الأساسي في تحريك سياسات الدولة، والسيطرة على اقتصادها ومجتمعها. وقد استمرت سيطرته المباشرة على الحكم بين عامي 1962 و2011. وأدبيات الجيش البورمي تحدد دوره بأنه يدافع عن "السياسات الوطنية وعن الديانة البوذية وعن التقاليد والأعراف والثقافة". وكمختلف الدول التي يحكمها العسكر، يخضع الاقتصاد في هذا البلد، ومنذ الاستقلال، بشكل مباشر أو ملتوٍ، إلى سيطرة القيادات العليا للقوات المسلحة.

خلال فترة الحكم العسكري المباشر، حفل المشهد الداخلي باحتجاجاتٍ شعبيةٍ وانتفاضات مسلحة. حيث عرفت البلاد في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته مواجهات مسلحة عنيفة مع متمرّدين يعتنقون البوذية، وهي الدين الرسمي للبلاد، ولكنهم ينتمون إلى إثنيات متعدّدة تحاربها قومية البامار المهيمنة. وقد قوبلت كلها بأعمال قمع ممنهجة وتطهير عرقي وديني متعاظم. وعلى الرغم من عودة الديمقراطية إلى البلاد نظريا مع وصول أونغ سان سو كي، صاحبة جائزة نوبل للسلام لعام 1991، إلى الحكم سنة 2015، إثر صفقة سياسية مع الجيش، فقد دفعت الأقلية الروهانغية المسلمة في البلاد أعلى الأثمان، حيث مورست بحق أفرادها بين عامي 2016 و2017 عمليات الاغتصاب كما القتل الجماعي، ووصولاً إلى حرق كامل لبلداتها وقراها وتهجير من بقي حياً إلى بنغلاديش المجاورة. وقد اتهمت الأمم المتحدة حينذاك قائد الجيش بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. لكن صاحبة جائزة نوبل، وبعد أن أمضت سنوات طويلة في الإقامة الإجبارية المفروضة من الجيش، رفضت أن تدين هذه المجازر، بل ترافعت عن العسكر أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي سنة 2019.

مسارات الدول حديثة الاستقلال نسبياً حافلة بالدور المهيمن الذي تلعبه القوات المسلحة تحت تسميات متعدّدة

سان سو كي، أو أنتيغون آسيا كما أطلقت عليها الصحافة الغربية، كانت قد راهنت على تنمية الاقتصاد وتحقيق السلام في الأقاليم المتمرّدة قبل أن تلتفت إلى تحجيم خطر الغول العسكري. وهي في دفاعها عن ارتكاب الجيش الجرائم بحق المسلمين، فعلى الأغلب، لم تكن تمارس مجرد سياسة واقعية تُحابي الجيش فحسب، بل أيضاً هي عبّرت بلا لبس عن عصبية دينية واضحة. أيقونة الديمقراطية كما لقبها بعضهم رفضت أن تقف إلى جانب المقهورين من الروهينغا بمحاباة كاملة للقوات المسلحة، وسعياً إلى اللعب على الوتر العنصري المحلي المتنامي في أوساط الجيش، والمعادي لكل القوميات المختلفة، إضافة إلى العداء التاريخي ضد المسلمين.

يوم الأول من شباط / فبراير الحالي، عاد الجيش إلى الانقلاب على السلطة المدنية، واعتقل سان سو كي، وأودعها الإقامة الجبرية مجدّداً. وبحجة وقوع تجاوزات في أثناء الانتخابات التي جرت في نهاية العام المنصرم، عاد الضباط إلى حكم البلاد بشكل مباشر.

مسارات الدول حديثة الاستقلال نسبياً حافلة بالدور المهيمن الذي تلعبه القوات المسلحة تحت تسميات متعدّدة. وعلى الرغم من العنف الرمزي الواضح في تقلّد أصحاب الرتب العسكرية مقاليد السلطة، إلا أن من المفاجئ مبدئياً أن تحظى هذه المجموعات غير الديمقراطية بقبول شعبي في بعض الأقاليم، والتي ارتبط تاريخها الحديث بسطوة العسكر على المشهد العام، إلا أن ردة فعل بعض العرب على هذا الانقلاب العسكري كانت متميّزة سلباً، إذ أفصح كثيرون عن تأييدهم الانقلابيين شماتة بصاحبة جائزة نوبل التي رفضت إدانة المجازر بحق المسلمين. ولم يتساءل أحد من المؤيدين عمن ارتكب هذه المجازر، وهي القوات المسلحة نفسها.

سان سو كي أيقونة الديمقراطية كما لقبها بعضهم رفضت أن تقف إلى جانب المقهورين من الروهينغا بمحاباة للقوات المسلحة

تحظى الجيوش، وبعيداً عن مكوّناتها الفكرية المحدودة، كما بعيداً عن ممارساتها القمعية المتكرّرة، وكذا بعيداً عن سطوتها الاقتصادية المنفلتة عن أي رقابةٍ تذكر، برضى لدى بعض المجموعات البشرية، وخصوصاً في المنطقة العربية. لا يحتاج الأمر إلى طبيب نفسي أو محلل نفسي، بل إلى قراءة سياسية وتاريخية، لتكوين الدولة الوطنية في المنطقة العربية.

لقد لعبت الجيوش، أو بالأحرى النواة شبه العسكرية التي تشكلت الجيوش انطلاقاً منها، دوراً أساسياً، بنسبٍ متفاوتةٍ، في عمليات التحرّر من الاستعمار الأجنبي. وبالتالي، ارتبط بها نشوء الدولة، نظرياً على الأقل، في أذهان مجموعات غير متعلمة غالباً أو النخب المتعلمة المستفيدة خصوصاً. وقد سعت الأحزاب الوطنية التي نشأت في الفترة نفسها أو قبلها بقليل، إلى التقرّب من الجيش أو حتى الانتساب بكثافة إلى صفوفه، انطلاقاً من تصوّر انقلابي للحياة السياسية، والذي لا يمكن أن يكون له مآل إن لم تسانده قوة مسلحة. وقد كان لدى الجمهوريات سعيٌ أشد وطأة للتماثل مع القوى العسكرية منه لدى الملكيات. وقد بدا واضحاً أن الجيش لعب الدور الأساس في نشوء الدول الحديثة، وإن كانت غير مكتملة العناصر، كما في مصر وسورية والعراق وليبيا والجزائر. وقد جاء ما سُميّ حياد بعض الجيوش تجاه الاحتجاجات الشعبية في العقد الماضي ليعزّز من الصورة شبه الإيجابية المشوّهة للديمقراطية، وللسعي نحو بناء الدولة المدنية الحديثة. ويصح استرجاع المقولة الباكستانية الساخرة لوصف حال دول كثيرة في المنطقة، حيث "هناك بلدان لديها قوات مسلحة وهناك قوات مسلحة لديها بلدان".