حين رعت فرنسا الإبادة في رواندا

حين رعت فرنسا الإبادة في رواندا

02 ابريل 2021

ماكرون والمؤرخ رئيس "اللجنة الرواندية" وتقرير اللجنة في الأليزيه (26/3/2021/فرانس برس)

+ الخط -

فرنسا غير متواطئة "ولكنها تتحمّل مسؤولية كبرى وجسيمة" عن جريمة التطهير العرقي التي حصلت في رواندا، سنة 1994. هكذا خلص تقرير لجنة المؤرّخين الفرنسيين، قبل أيام، فالذي يهم هو أنها "غير متواطئة"؛ أي غير متهمة، وكل ما يأتي بعد هذه الكلمة لغوٌ يمكن إهماله. والأكثر أهميةً في أي تقرير من هذا القبيل ألا تتلوّث صورة الفرنسي، بقبعته الاستعمارية التي تحميه من لهيب شمس أفريقيا، ويعتمرها بينما هو جالس في علياء أحد الأبنية أو التلال، يراقب حُسنَ سير عمليات القتل الجماعي والاغتصاب، من دون أن يقوم هو بقتل أيٍّ من الضحايا، أو اغتصاب واحدة من مئات آلاف النسوة اللواتي اغتُصبن حينها.

هكذا تتشاطر التقارير الغربية في نفي التهمة عن الأوروبي الوديع المُتطهِّر من أي رجسٍ، المجبر على مشاهدة صور المجازر التي ينفذها أبناء المستعمرات، بينما هو يحاول أن يدخلهم في طور التحضر. من هنا يأتي الانتقاص في أي حكم، حكماً قضائياً مدنياً كان، أو من أحكام المحكمة الجنائية الدولية التي تخوض في جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ففرنسا التي قدّمت الأسلحة والدعم اللوجستي للحكومة الرواندية التي كانت تمثل الأغلبية من قبيلة الهوتو لم تفعل ذلك فحسب، بل كانت متحالفة معها منذ سنة 1990، بحسب ما جاء في التقرير الذي تسلمه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يوم الجمعة، في 26 مارس/ آذار 2021، فكيف يخلص التقرير ببراءتها، وعدم اتهامها بقتل ولا حتى شخص واحدٍ من بين 800 ألف رواندي من أقلية التوتسي، راحوا ضحية تلك الحملة؟

نعلم ذلك، حين نكون على معرفة مسبقة بأن اللجان التي تشكِّلها الحكومات للوقوف على حقيقة ما يكشفه الإعلام من ضلوع قوى غربية في الجرائم ضد الإنسانية، لا تكون مهمتها، في أحيانٍ كثيرة، سوى طمس تلك الحقائق، وإبعاد أي تهمة عن المتورطين، أو حتى المخططين لتلك الجرائم. لذلك وجدنا كيف أنه، وبعد أن كشفت بعض وسائل الإعلام، ومنها صحيفتا لوموند الفرنسية ونيويورك تايمز وقناة سي أن أن، سنة 2017، عن تقديم الحكومة الفرنسية دعماً لحكومة رواندا في أثناء تنفيذها المجازر، سارعت فرنسا إلى تشكيل لجنة للتحقيق، من أجل هدفٍ واحد، أن يقال إنها تبالي ولن تسكت قبل أن توقع العقاب بالجناة، إن كانوا على قيد الحياة. وعلى افتراض أن المتورّطين قد ماتوا جميعاً، فلن تتنطع أي لجنةٍ للذهاب بعيداً في الكشف عن الحقائق، لأن ذلك سيعني إلزام الحكومة الفرنسية بالاعتذار لشعب رواندا وتقديم التعويضات له.

ساهمت رعاية فرنسا النظام في رواندا، سنوات، في ضلوعه في عمليات قمع المعارضة ومنع قيام مصالحات وإقرار اتفاقيات بين الهوتو والتوتسي

منذ انتهاء تلك المذبحة، التي بدأت، في 7 أبريل/ نيسان 1994، وانتهت في 15 يوليو/ تموز 1994، لم يتوقف توارد التقارير عن ضلوع فرنسا فيها، وعن مسؤوليتها الكبيرة في استمرارها وتأمين الحماية لمقترفيها، بل وتورّطها أكثر عبر تقديم الأسلحة، ومشاركة فرنسيين فيها، وتسهيل هروب المجرمين من حكومة الهوتو، وتأمينهم في معسكرات آمنة. وبدأت الفضائح حول رعاية الفرنسيين مرتكبي المجازر في أدق التفاصيل، منها ما كُشف، سنة 2004، أن طائرة الرئيس الرواندي المنحدر من الهوتو كان يقودها ملاحون فرنسيون، وهي التي قيل إن صاروخا أطلقه متمرّدون من التوتسي قد أسقطها. ثم رشحت معلومات عن وثيقة للخارجية الفرنسية عن تولي قائد القوات الفرنسية في رواندا وظيفتي مستشار رئيس الجمهورية ومستشار قائد أركان الجيش الرواندي، بدءاً من 3 فبراير/ شباط 1992. وخلال فتره عمل هذا المستشار، كثرت المناشير والبرامج الإذاعية التي تمجّد فرق الموت وتُحرِّض على قتل التوتسي، وهي فترة سادت فيها المجازر إلى وصلت إلى ذروتها، في 7 أبريل/ نيسان 1994، حين بدأت عمليات التطهير العرقي.

ثم تتالى نشر معلوماتٍ وضعتها لجان، وكُتبٍ وضعها صحافيون وباحثون وجنود وضباط سابقون، شاركوا في عملية "تركواز" الفرنسية، عن وقائع كثيرة تثبت تشجيع الفرنسيين على ارتكاب المجازر ومشاركتهم فيها باشخاصهم وتأمين الأدوات اللازمة لها. إذ نشرت اللجنة الرواندية المعنية بمكافحة الإبادة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، لائحة تتضمّن أسماء 22 ضابطاً وسياسياً فرنسياً تتهمهم بارتكاب جرائم خطيرة خلال حملة التطهير العرقي. كما تحدّث كتاب بعنوان "ما لا يُصرَّح به" عن تدفق شحنات السلاح في الأعوام 1991 و1992 و1993، وهي الفترة التي كانت تحصل فيها مجازر متفرقة. ويفيد الكتاب بأن الفترة التي حصلت فيها جريمة التطهير العرقي الكبرى، بعد 7 أبريل/ نيسان 1994، والتي استمرت مائة يوم، شهدت إيصال ست شحنات من الأسلحة الفرنسية للقوات الحكومية الرواندية. وجاء في كتاب آخر أن هذه الأسلحة، والدعم اللوجيستي المرافق، ساعدت في زيادة عدد القوات الرواندية عشرات الأضعاف، ما ساهم في زيادة عمليات القتل.

تعود العلاقات بين فرنسا ونظام الهوتو في رواندا إلى سنة 1975، حين جرى تحالفٌ بين الطرفين ساهم في تلقي النظام رعاية خاصة من الرئاسة الفرنسية

كما نشر أحد الضباط الفرنسيين السابقين كتاباً جاء فيه إن السلطات الفرنسية أبلغت جنودها الذين أرسلتهم إلى رواندا، سنة 1994، أنهم في مهمةٍ إنسانيةٍ تضطلع بها عملية "تركواز"، وأنهم بصدد إنشاء "منطقة إنسانية آمنة" لحماية المدنيين ضحايا المجازر، غير أنهم، وبعد وصولهم إلى كيغالي، أخذوا يقومون، بدءاً من 23 يونيو/ حزيران 1994، بتأمين ممر آمن لمرور آلاف المشاركين بالمجازر من الهوتو للخروج من البلاد، بعد أن أخذت قوات الجبهة الوطنية الرواندية التي تشكّلت من أقلية التوتسي، تقترب من السيطرة على العاصمة. وقال أحد الضباط الذي شارك في هذه العملية إنه شهد تسليم أسلحة لمرتكبي المجازر من قوات الهوتو، بدلاً من نزع السلاح من أيديهم ومنعهم من قتل التوتسي.

إضافة إلى ذلك، ساهمت رعاية فرنسا النظام في رواندا، سنوات، في ضلوعه في عمليات قمع المعارضة ومنع قيام مصالحات وإقرار اتفاقيات بين الهوتو والتوتسي. وتعود العلاقات بين فرنسا ونظام الهوتو في رواندا إلى سنة 1975، حين جرى تحالفٌ بين الطرفين ساهم في تلقي النظام رعاية خاصة من الرئاسة الفرنسية. وفي 1982 زار الرئيس الراحل، فرانسوا ميتران، الرئيس الرواندي، ليطمئنه إلى أن فرنسا مستمرة في دعمه، على الرغم من أن الأخير جاء إلى الحكم في أعقاب مجازر واعتقالات بحق أفراد أقلية التوتسي توَّجها بانقلاب سنة 1973، وأبعد عشية زيارة ميتيران 80 ألف من التوتسي خارج البلاد.

فرنسا حسب تقرير المؤرّخين غير مجبرة على الاعتذار أو التعويض، وهنا بيت القصيد

قبل شهر من صدور تقرير المؤرخين هذا، أرسلت منظمة تسمى "سورفي"، والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان وناجون من حملة الإبادة الجماعية في رواندا، رسالةً إلى القضاء الفرنسي، يطلبون فيها منه إعادة فتح التحقيق في تعليمات أصدرتها فرنسا، سنة 1994، تقضي بعدم استجواب السلطات المسؤولة عن تلك الجرائم. وصدرت التعليمات عبر برقية دبلوماسية سرّية، عثر عليها أحد باحثي المنظمة في أرشيف ميتران، كانت قد أرسلت، في 15 يوليو/ تموز 1994، في اليوم الأخير من حرب الإبادة تلك، تطلب من الجنود الفرنسيين إبلاغ المسؤولين عن تلك المجازر رغبة فرنسا في مغادرتهم "المنطقة الإنسانية الآمنة" التي أنشأتها، وكان الجيش الفرنسي يسيطر عليها، أي أن هذا الجيش أمّن ملاذا آمنا لمرتكبي تلك المجزرة.

إذاً، وحسب تقرير المؤرّخين، فرنسا غير متَّهَمة بالضلوع في جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في رواندا، هي فقط رعت النظام الذي نفذها وسهرت على حسن تنفيذ عمليات القتل. لذلك هي غير مجبرة على الاعتذار أو التعويض، وهنا بيت القصيد، تماماً مثلما لم تجد ما يستدعي اعتذارها عن حربها واحتلالها الجزائر، ومثلما لم تعتذر بريطانيا عن وعد بلفور، وكذلك دولة الاحتلال الإسرائيلي عن مجازر صبرا وشاتيلا. الضحايا بالنسبة لهؤلاء كانوا فائضين عن اللزوم، وهم ساعدوا في تخليصهم من حياة البؤس والقمع التي كانوا يعيشونها، وقد تأتي لجان وتخلُص إلى نتيجة كهذه، ما دامت لجنة المؤرّخين لم ترَ في المساعدة الفرنسية للقتلة في رواندا اتهاماً.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.