تونس: الهجرة ووهم الاستيطان الكبير

تونس: الهجرة ووهم الاستيطان الكبير

27 فبراير 2023

شبّان من ساحل العاج أمام سفارة بلدهم في تونس (24/2/2023/فرانس برس)

+ الخط -

حدثت، منذ بداية التسعينيات، تحوّلات في مشهد الهجرة في المتوسط بشكل جذري. فمع فرض إيطاليا وإسبانيا تحديداً على مواطني بلدان المغرب العربي التأشيرة، ستندلع أولى موجات الهجرة السرّية البحرية، أو ما تعرف في البلدان المغاربية بـ"الحرقة" التي ما زال الناس يتساءلون عن معناها الحقيقي، وإنْ كانت تعني اختراق الممنوعات أو حرق الوثائق، إلخ. وبعيداً عمّا يمكن أن تمنحنا إياه السيميائية الاجتماعية من دلالات عميقة، تغيّرت وظائف هذه البلدان كثيراً، ولم تعد مناطقها دافعاً لمهاجريها فحسب، بل أيضاً جالبة للمهاجرين، وهي -في الوقت نفسه- مناطق عبور يقصدها آلاف المهاجرين سنوياً لمحاولة الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط. التكلفة عادة ما تكون باهظة لمثل هذه المحاولات: أموال تهدر وأرواح تزهق في عرض المتوسط. بعد عقود، وأمام تشدّد سياسات الهجرة لبلدان الاتحاد الأوروبي، وحتى دول المغرب العربي، تحوّلت هذه المنطقة إلى مصيدة تستقطب المهاجرين على أمل العبور، غير أنهم يستقرون مؤقتاً أو طويلاً في هذه البلدان. لا شك أن الثورات العربية وانهيار منظومة الحدود قد دفعت بدورها إلى تحولات مثيرة في الهجرة. كانت الحدود قد استُعملت أيضاً للابتزاز على غرار ما فعل الراحل العقيد الليبي حين كان يرفض في العلن أن تمارس بلاده دور الشرطي الذي يحرس حدود أوروبا، ويبتزّ في السر تلك الدول بالذات، حتى تغضّ الطرف عن تجاوزاته العديدة.
وإذ يفضل هؤلاء المهاجرون الاستقرار في ليبيا عادة، فإن بقية البلدان المغاربية ظلت غير جاذبة لهؤلاء، بحكم عوامل عديدة، لعل منها الظروف الاقتصادية والرقابة الأمنية عليهم في ذلك كله، وظلت تونس منطقة عبور عادة، رغم أن بعضاً من هؤلاء قد اختار الاستقرار فيها مؤقتاً، ولو بشكل غير قانوني. كان سوق العمل في تونس، رغم نسب البطالة المرتفعة، يتسع لهؤلاء، في ظل عزوف الشباب التونسي عن أعمال شاقّة وذات أجور زهيدة، كخدمات المخابز والمقاهي والمطاعم، علاوة على جمع النفايات المنزلية وأشغال التنظيف في المناطق العمرانية. 

المقاربة الأمنية التي اعتمدتها السلطات التونسية في ما تسميها "مكافحة الهجرة السرية" لم تؤتِ أكلها

استفاد هؤلاء بعد الثورة من نمو حسٍّ مدني غذّته الجمعيات المدنية العاملة في مجال حقوق المهاجرين. وخلال العشرية الماضية، لم يكونوا عرضة للإيقاف، ما عدا ما يحدُث عند إجهاض عمليات الهجرة السرّية التي تكشف عن أعدادٍ مرتفعة من المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء. ومع ذلك، لم يعرف المشهد تحوّلاتٍ جذرية في عدد المهاجرين. كانت المعطيات الإحصائية تفيد بأن عدد جنسيات الموقوفين من المهاجرين يبلغ سنوياً ما يناهز 70 جنسية، ولا يزال هذا الرقم تقريباً يراوح مكانه.  
المقاربة الأمنية التي اعتمدتها السلطات التونسية في ما تسميها "مكافحة الهجرة السرية" لم تؤتِ أكلها، وذلك لأسباب موضوعية عديدة، منها طول الشريط الساحلي للبلاد الذي يمتدّ على ما يقارب 2000 كلم (إذا ما أخذنا بالاعتبار محيط الجزر)، علاوة على قلة الإمكانات اللوجستية لحرس الحدود البحري، في ظل الأزمة الخانقة للمالية العمومية.
لم تحرص الحكومات المتعاقبة على معالجة ملف الهجرة، وظل ثانوياً، وحتى التشريعات المتعلقة ظلت قديمة وغير ملائمة للمعايير الدولية. فقانون 03 فيفري (فبراير) 2004 لا يتحدّث عن الهجرة، بل عن وثائق السفر، كذلك فإنه ينص على عقوباتٍ عدّت الأشد عالمياً، من دون نسيان أن تونس لم توقّع الاتفاقية الدولية 18 ديسمبر/ كانون الأول 1990، الخاصة بحماية المهاجرين وأفراد عائلاتهم. وفقط أشار دستور 2014، قبل استبداله، في فصل يتيم، إلى اللاجئين ومنع تسليمهم، رغم أن بعض الممارسات ظلت غير ملتزمة ذلك.

كانت الشعبوية دوماً مناخاً ملائماً لتأجيج مشاعر الكراهية ضد المهاجرين

لم تتراجع موجات الهجرة غير الشرعية، سواء التي تدفع التونسيين إلى الشواطئ الإيطالية، أو التي تدعوهم إلى القدوم إلى تونس، إما لعبورها أو للاستقرار فيها. تفيد أحدث الدراسات التي أنجزها المرصد الوطني للهجرة، بالتعاون مع المعهد الوطني للإحصاء، وهما مؤسّستان عموميتان مرجعيتان، أعدّتا سنة 2022 المسح الوطني للهجرة، بالتعاون مع منظمات دولية مرموقة، في مجال المعطيات الكمّية للهجرة، بأن عدد المهاجرين الأجانب بلغ سنة 2022 ما يناهز 70 ألفاً، دخلوا البلاد بشكل قانوني أو غير قانوني. ومع ذلك، ظلت أصوات مناهضة للمهاجرين عموماً تعبّر، من حين إلى آخر، عن ضيقها بهم، مذكّرة بالوضع الصعب للبلاد. 
أثارت الهيئة الوطنية لمكافحة المتاجرة بالبشر مثلاً في تقاريرها العديدة استفحال المتاجرة بالمهاجرين وسوء معاملتهم. والرئيس قيس سعيّد، منذ انتخابه سنة 2019، عبّر، في مرّات عديدة، عن تبرّمه من الظاهرة، فقد بادر إلى زيارة مدن ساحلية عديدة، ملمّحاً، في الوقت نفسه، إلى أنها نتيجة مؤامرةٍ تُحاك على تونس. لم تكن الدلالة واضحة آنذاك، حتى صدح به في الأيام القليلة الماضية في أثناء اجتماع مع ما يسميه مجلس الأمن القومي، وقد عبّر عن أن ظاهرة الهجرة تندرج ضمن مؤامرة كبرى تحاك ضد تونس، من أجل سلخها عن هويتها العربية الإسلامية، وقصر هويتها هذه على البعد الأفريقي. وقال إنها محاولة لتغيير تركيبتها الديمغرافية، في مسعى لـ"استيطانها"، مندّداً بالجهات التي تلقّت أموالاً لتوطين المهاجرين، في إشارة إلى الجمعيات التي تناضل من أجل إدماج هؤلاء، ومنع أشكال الاعتداءات العنصرية التي ارتفعت وتيرتها، رغم سنّ قانون مناهض لكل الأشكال العنصرية سنة 2018... أثارت هذه المواقف الصادمة موجة من الاستنكار، على الصعيدين الوطني والدولي، خصوصاً أن أعمال عنفٍ رافقتها وطاولت بعض المهاجرين... 
كانت الشعبوية دوماً مناخاً ملائماً لتأجيج مشاعر الكراهية ضد المهاجرين.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.