بيلاروسيا منفذ المهاجرين الخطر إلى أوروبا

بيلاروسيا منفذ المهاجرين الخطر إلى أوروبا

06 نوفمبر 2021
+ الخط -

انتشرت في تركيا وفي عدة دول عربية، أخيرا، عروض السفر والسياحة الخاصة ببيلاروسيا، حيث تعرض وكالات خدمات كثيرة تقديم التأشيرة وحجوزات السفر والفندق وفق ميزانية لا تتجاوز ألفي دولار. ولأول وهلة، يبدو الأمر عاديًا، فالسياح يدفعون مقابل الخدمة كما يفعلون حين يتوجهون إلى أي بلد آخر. الأمر الوحيد المستغرب تحوّل بيلاروسيا، بشكل مفاجئ، إلى وجهة سياحية مفضلة للأفراد والعائلات العربية. وبقليل من البحث، يمكن الحصول على إجابة، أن بيلاروسيا، البلد الأوروبي لكن غير المنضم للاتحاد الأوروبي، أصبحت منفذاً مهماً للمهاجرين غير الشرعيين.

ما حدث أن بيلاروسيا تخضع منذ عدة أشهر لعقوبات قاسية من الاتحاد الأوروبي، بسبب اتهامات لحكومة الرئيس لوكاشينكو بالفساد وقمع المعارضة. والأخير ينظر إلى كل تعليق أوروبي على أداء حكومته تدخلا في شؤون بلاده الداخلية. وكان أحد ردود الفعل البيلاروسية على القرارات الأوروبية التهديد بفتح الحدود للمهاجرين. ويبدو أن حكومة لوكاشينكو كانت جادّة في تهديدها، حيث تم تسجيل تدفق الآلاف عبر الحدود المشتركة مع ليتوانيا في أشهر معدودة.

لم يكن هناك ما يمكن فعله في مواجهة بيلاروسيا سوى التعبير عن الانزعاج والدعوة إلى أن تتعامل بمسؤولية، فالبلد يخضع بالفعل للعقوبات التي تعقّد استمتاعه بالجوار الأوروبي. بيلاروسيا تبدو مدعومة بشكل واضح من روسيا التي تستفيد من ولاء الرئيس الذي لم تعد بلاده تمتلك منافذ كثيرة للتنفس الاقتصادي.

يعيش الاتحاد الأوروبي تحدّيات كبيرة، لا تمثل الأزمة البيلاروسية إلا أحد مظاهرها

ما أن انتبه اللاجئون والمحبطون الذين تقطعت بهم السبل إلى كل هذه التغييرات في خريطة التعامل مع العابرين، حتى سارعوا إلى اتخاذ بيلاروسيا طريقاً سهلاً للوصول إلى دول أوروبا الأغنى. ساهم هذا في ازدهار أسواق التعاقدات السياحية التي تقود إلى العاصمة مينسك بشكل شرعي، لكنه ساهم أيضاً في ازدهار أعمال التهريب، والاتجار بالبشر عبر وسطاء يتّخذون مظهر المساعد في العبور إلى الشقّ الأوروبي.

وواقعا، ليس الأمر بالسهولة التي يبدو عليها، فمجرد الوصول إلى بيلاروسيا لا يعني أنك قد وصلت إلى فرنسا أو ألمانيا أو السويد، كما يصوّر مروّجون كثيرون. يجب الأخذ في الاعتبار أن الاتحاد الأوروبي، وإن لا يملك وسائل ضغط مناسبة لاستخدامها ضد مينسك في الوقت الحالي، بسبب التوتر في العلاقات، إلا أنه يملك هذه الوسائل في مواجهة دول أخرى مجاورة، لا بد للمتسلل من أن يمر بها كليتوانيا وبولندا. الأمر لا يتعلق فقط بضغوط الأوروبيين، فيجب أن يوضع في الاعتبار أن هاتين الدولتين، لسوء الحظ، لا يمكن تصنيفهما من بين الدول المرحّبة باللاجئين أو المهاجرين. هذا يعني أنه، ومهما كانت موجهات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الواصلين متشدّدة، فإن الإجراءات الليتوانية والبولندية سوف تكون أكثر تشدّداً.

بالنظر إلى قرار البرلمان البولندي، قبل نحو أسبوعين، والذي يشرعن التعامل القاسي مع اللاجئين، من قبيل قطع الطريق عليهم وإعادة الواصلين منهم بشكل غير شرعي إلى بيلاروسيا، يمكن للمرء أن يدرك أن الأمر ليس مزحة، فإذا كان هناك ضوء أخضر من الجانب البيلاروسي على طريقة "دعه يمرّ"، فإن هناك ضوءاً آخر للجهات الأمنية والحدودية البولندية بالتعامل وفق ما تراه مناسبًا، بحيث تتحوّل تجربة المرور عبر الحدود الوعرة إلى تجربةٍ عالية التكلفة لكل مغامر. وبالإضافة إلى هذا، هناك نقطة أخرى يجدر وضعها في الاعتبار، قبل أن يخوض المرء غمار هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، فالواقع الجيوبوليتيكي الذي أنتج ما يطلق عليها المهرّبون اسم "منافذ جديدة" للعبور قابل للتغيير بين ليلة وضحاها، فعلى الرغم من أننا لا نملك أدلة، إلا أنه من غير المتوقع أن أبواب الحوار البيلاروسي الأوروبي قد أغلقت إلى الأبد. هذا يجعلنا لا نستبعد الوصول إلى اتفاق، ولو جزئيا، يكون ضحيته مهاجرون عالقون.

الواقع الجيوبوليتيكي الذي أنتج ما يطلق عليها المهرّبون اسم "منافذ جديدة" للعبور قابل للتغيير بين ليلة وضحاها

من الناحية الرسمية، وحتى في الوضع الحالي، ليست سياسة "دعه يمر" هذه موجودة. هذا يجعل الأمر معتمداً على مزاج الموظفين وحظ المغامر الذي قد لا يترك ليمرّ ببساطة كما هو متوقع. وفي الحقيقة، يجب أن يكون حظك بالفعل جيدًا، لتستطيع أن تعبر هذه الحدود الشائكة التي يتمركز حولها آلاف من الجنود والمحاطة بنقاط المراقبة. ما يحدُث أن كثيرين يتم إرجاعهم إلى داخل الحدود البيلاروسية التي ترفض استقبالهم، ليظلّوا في بقاع برزخية أحياناً أياما وأسابيع في مواجهة الطبيعة، وفي ظروف بيئية صعبة قد تودي بحياتهم.

طريقة التعامل الأوروبي في بولندا وغيرها عبر الطرد والإرجاع القسري تتناقض مع معايير حقوق الإنسان، ومع الالتزامات الدولية الخاصة بتوفير الحماية للاجئين، فبحسب منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الحقوقية، على هذه الدول استقبال هؤلاء اللاجئين، أقله حتى تتم دراسة حالاتهم والتأكد من أسباب قدومهم، لأن منهم كثيرين من القادمين من مناطق الحروب أو ممن يحتاجون بالفعل الحماية الإنسانية.

يمكننا أن نتفهم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها أوروبا حالياً، وفاقم من آثارها وباء كورونا، كما يمكننا أن نستوعب القلق من تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين والمهاجرين، وما يترتب على ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية، لكن ذلك كله لا يبرّر التعامل الفظ مع اللاجئين، وغلق الأبواب الصارم أمام شرائح ضعيفة تضم نساءً وأطفالا ومرضى.

تخضع بيلاروسيا منذ أشهر لعقوبات قاسية من الاتحاد الأوروبي، بسبب اتهامات لحكومة الرئيس لوكاشينكو بالفساد وقمع المعارضة

تأتي هذه التطورات في وقتٍ يعيش فيه الاتحاد الأوروبي تحدّيات كبيرة، لا تمثل الأزمة البيلاروسية إلا أحد مظاهرها، فقد وجهت إلى الاتحاد ضربة كبيرة بخروج بريطانيا منه إثر تشكيك الغالبية من الناخبين هناك في جدواه وفائدته بالنسبة لبلادهم، وما تزال دولٌ كثيرة تشكّك فيما إذا ما كان بقاؤها ضمن الاتحاد جيداً لها. جديد هذه التحدّيات ما أعلنته بولندا الأسبوع قبل الماضي، حيث توافقت الحكومة هناك على رفض المبدأ أن قوانين الاتحاد يجب أن تهيمن على القوانين الوطنية. بالنسبة لدول أوروبا الغربية، كان هذا الإعلان غير مقبول، فبحسب الدول الأكثر تأثيرًا، كفرنسا وألمانيا، فإن رابطة الاتحاد ليست قائمة طعام يخيّر فيها المرء بين أصناف كثيرة، وإنما هي ميثاق واجب الاتباع بكل ما فيه. وبعد إعلان بولندا، سارعت المجر للوقوف في صفها إزاء الحملة التي استهدفتها، وبدت أقرب إلى المساومة والتهديد بإلغاء الشراكات الاقتصادية في حال الإصرار على هذا الموقف. وقد عبّر الرئيس المجري، يانوش أدير، خلال القمة التي انعقدت في بروكسل، عن قناعته بالموقف البولندي، معتبراً أن من حق الدول الاحتفاظ بسيادتها الوطنية، ورفض كل ما تراه يضرّ بمصلحتها من أي ناحية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية كانت.

بالعودة إلى موضوع المهاجرين، الحلقة الأضعف في كل هذه القصة، تبدو الصورة كأن أوروبا الغربية تضغط على دول شرقية، مثل بولندا، من أجل أن تفعل ما في وسعها لإيقاف تدفق اللاجئين، ومنعهم من الوصول إلى دول العمق. تغلق الدول الشرقية حدودها مع دول الإطار الخارجي للاتحاد الأوروبي، ليس لمجرّد الاستجابة لطلب الاتحاد، وإنما لتماشي ذلك مع سياساتها اليمينية. من جهة أخرى، تستخدم دولٌ مغضوبٌ عليها كبيلاروسيا اللاجئين سلاحا للضغط على الاتحاد الذي يحاربها اقتصادياً.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق