بايدن وأوروبا وفجوة الثقة

بايدن وأوروبا وفجوة الثقة

14 يونيو 2021
+ الخط -

على الرغم من مظاهر الود والتقارب التي حفلت بها، إلا أن جولة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الأوروبية، لم تمحُ دوافع القلق الأوروبي تجاه مستقبل العلاقة مع الحليف الأميركي، فعلى الرغم من التفاؤل الكبير مع خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، إلا أن قراراته الهوجاء والتلاعب بتقاليد السياسة الخارجية الأميركية وقواعدها تركت بصماتٍ ثقيلةً على كل مسارات العلاقات الخارجية لواشنطن، ليس فقط مع الأعداء والخصوم، وإنما أيضاً مع الحلفاء.
ومما زاد من ضبابية الأجواء بين واشنطن وأوروبا أن خمسة أشهر من ولاية بايدن لم تشهد تحوّلاً جوهرياً في السياسة الأميركية على مستوى الممارسة الفعلية، بسبب انشغاله بالأوضاع الداخلية وإعادة ترتيب الأولويات، خصوصاً في ما يتعلق بتوجيه مخصّصات الموازنة العامة ومراجعة إجراءات مواجهة أزمة "كوفيد – 19" وخططها. ولأن تلك الملفات مستمرة وليست طارئة ولا مؤقتة، فإن الأوروبيين كانوا ينتظرون مسارعة بايدن إلى خطوة عملية وبادرة طمأنة باتجاه تعديل أخطاء ترامب، من دون أن ينتظر موعد انعقاد قمة مجموعة السبع أو قمة الأطلنطي.
وفضلاً عن دور عنصر التوقيت، لا تزال الشكوك الأوروبية قائمة، بصدور إشارات سلبية من واشنطن، توحي بأنها لم تتخلّ تماماً عن عنجهية ترامب وغطرسة سياساته. ويستشهد الأوروبيون على ذلك بإقدام واشنطن على ترتيب موعد لأول قمة أميركية روسية في عهد بايدن، من دون أي ترتيب مسبق مع أوروبا، أو حتى إخطارها بتلك الخطة. بل إن تصريحات بايدن، منذ تولى الرئاسة، تؤكد على "عودة أميركا" لقيادة العالم، وليس بوصفها مجرد قوة كبرى تشارك في تلك القيادة. كما تسود أوروبا خشية شديدة من تكرار تجربة ترامب، بعد اتّضاح أنه يمثل تياراً له وزنه في المجتمع الأميركي. وبالتالي، فإن الديمقراطية الأميركية هي النموذج الذي اعتاده العالم للمبادئ والأطر الحاكمة للسياسات الأميركية داخلياً وخارجياً. وبالمناسبة ذلك أيضاً ما تطرحه إيران، وهي تحاجج بضرورة تحصيل ضماناتٍ بعدم نكوص واشنطن مجدّداً عن الاتفاق النووي، أو غيره من تفاهمات محتملة.
لكن المسألة أكبر من المواقف الرمزية ولا تقتصر على رغبة الأوروبيين في الشعور بالثقة و"الاطمئنان" تجاه واشنطن، إذ توجد قضايا خلافية قائمة بالفعل، وتحتاج تسوياتٍ وحلولاً. مثل التنسيق في مواجهة كورونا، وإدارة علاقات الطرفين مع الصين، وكذلك مع روسيا. وليس أدل على عمق الشرخ الحاصل في العلاقات الأميركية الأوروبية من أن التوجس الأوروبي لا يقتصر على الحكومات والمؤسسات الرسمية الأوروبية، فالشعوب أيضاً تتشكّك في واشنطن، ولا تثق فيما يفترض أنه تحالف بين الجانبين.
في استطلاع للرأي أجري، أخيراً، في 12 من دول الاتحاد الأوروبي، بطلب من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن 20% فقط من الأوروبيين يرون قيماً مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. أما بقية المُستطلَعين فيتفقون في ضرورة التعاون مع الولايات المتحدة، لكن لأغراض استراتيجية فقط. ولهذه الآراء أهميتها في قياس اتجاهات الرأي العام الأوروبي تجاه واشنطن. وفي ظل انعكاس التحوّلات المجتمعية الجارية في أوروبا، على الاستحقاقات الانتخابية والتوجهات التي تتبنّاها المؤسسات والسلطات المنتخبة، فإن رؤية الشعوب الأوروبية إلى نظرائهم على الجانب الآخر من المحيط ستلعب دوراً مهماً في تشكيل سياسات الاتحاد تجاه واشنطن مستقبلاً.
قبل أيام، كتب جو بايدن مقالاً في صحيفة واشنطن بوست، اعتبر فيه أن التحالفات والمؤسسات الديمقراطية التي نجحت في القرن الماضي قادرة على مواجهة التهديدات والعداوات في الوقت الراهن. وكأن مجرّد التحالف بين الديمقراطيات كفيلٌ وحده وبذاته بمواجهة التهديدات والعداوات تلقائياً. وهذا النسق من التفكير الأميركي الذي يُبسط الأمور ربما إلى حد السطحية، هو تحديداً ما يخشاه الأوروبيون، ويحتاج بالفعل من واشنطن خطوات أكثر تأثيراً ووضوحاً، تستند بدورها إلى تفكير أكثر عمقاً وأبعد مدى.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.