الهبّة الشعبية الفلسطينية .. خلفياتها، وأسبابها

الهبّة الشعبية الفلسطينية.. خلفياتها، وأسبابها، وسماتها

18 مايو 2021

مسيرة فلسطينية برام الله تنديدا بالاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية (18/5/2021/الأناضول)

+ الخط -

تشهد فلسطين المحتلة على جانبي الخط الأخضر هبّة شعبية شاملة، بدأت بوادرها منتصف نيسان/ أبريل 2021، مع وضع سلطات الاحتلال حواجز حديدية في ساحة باب العامود المؤدية إلى البلدة القديمة في القدس والمسجد الأقصى، في الأيام الأولى من شهر رمضان. واشتدّت مع دعوات المستوطنين المتطرفين إلى اقتحام المسجد الأقصى في 10 أيار/ مايو، بمناسبة احتفالاتهم بذكرى احتلال القدس الشرقية، ومساعي سلطات الاحتلال تنفيذ مخطط لإخلاء عائلات فلسطينية قسرًا من منازلها في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وإحلال مستوطنين مكانهم. وتوسعت مع اقتحام جنود إسرائيليين المسجد الأقصى والاعتداء بالضرب على المصلين فيه، وردّ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة برشقات صواريخ دفاعًا عن القدس والمسجد الأقصى بعد اقتحام الجنود الإسرائيليين له، ثم بدء جيش الاحتلال عدوانًا عسكريًا على قطاع غزة.

خلفيات هبّة القدس

تعمل سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ نكبة فلسطين، في أيار/ مايو 1948، على تهويد مدينة القدس، حين احتلت الأحياء الفلسطينية غرب المدينة، وطردت سكانها منها؛ مثل القطمون، والطالبية، والبقعة، وقرى فلسطينية مهجّرة ضُمت إلى القدس بعد طرد سكانها منها، مثل عين كارم والمالحة ولفتا. وسيطرت إسرائيل على ممتلكات الفلسطينيين، ومنعتهم من العودة إليها عبر سنّها مجموعة من القوانين، أهمها: قانون "أملاك الغائبين" الصادر في آذار/ مارس 1950. وبعد حرب حزيران/ يونيو 1967، ضمّت سلطات الاحتلال القدس الشرقية إلى الغربية، ومكّنت اليهود بموجب أوامر الاستملاك العقاري من السيطرة على منازل وأراضٍ مملوكة للفلسطينيين، وبدأت في إنشاء حزام استيطاني، قوامه 18 مستوطنة حول القدس، إضافة الى إقامة بؤر استيطانية في الأحياء العربية في القدس الشرقية، ووضعت خطّة لتهويد معالم القدس الجغرافية والديموغرافية والمعمارية. وبلغ المشروع الاستعماري ذروته، حين سنَّ الكنيست الإسرائيلي في تموز/ يوليو 1980 قانونًا عُرف باسم "قانون أساس: أورشليم القدس عاصمة إسرائيل"، أعلن فيه أن القدس، بشطريها الشرقي والغربي، هي عاصمة "موحدة" لإسرائيل، وهي مقرُّ رئيس الدولة والكنيست والحكومة والمحكمة العليا. 

تعمل سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ نكبة فلسطين، في 1948، على تهويد مدينة القدس

وعلى الرغم من رفض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في قراره رقم 478 الصادر في آب/ أغسطس 1980، ورفض الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 15/ 36 الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 1981، قانون الكنيست، وعدّه غير شرعيٍ ومخالفًا للقانون الدولي، لم تتوقف سلطات الاحتلال عن تنفيذ مشروعها الاستعماري الاستيطاني في القدس، حيث فَرضت عددًا من السياسات، لترسيم حدود جديدة للمدينة أحاطت بموجبها القدس الشرقية بمستوطناتٍ يهوديةٍ تفصلها جغرافيًا عن محيطها في الضفة الغربية، مع ضمان ربطها بالقدس الغربية لاستكمال عملية تهويدها، حتى باتت هذه المستوطنات مع منتصف عام 2017 تغطّي نحو 35% من مساحة القدس الشرقية، ويعيش فيها قرابة 220 ألف مستوطن، مقارنةً بأكثر من 441 ألف مستوطن في الضفة الغربية. وضمن المسعى نفسه، قامت سلطات الاحتلال ببناء جدار للفصل العنصري في الضفة الغربية، فصلت بموجبه أكثر من 140 ألف فلسطيني من القدس عن مدينتهم، وحرمت اقتصاد المدينة من عماده، وهو تقديم الخدمات للقرى المحيطة ومدن أخرى في الضفة الغربية، كما حرمتها من مصدرها الرئيس للخضروات والفاكهة، بعزلها عن قرى شمال غرب القدس، وذلك بعد ضرب قطاع السياحة باستيلاء القدس الغربية وقطاع السياحة الإسرائيلي على غالبية زوار المدينة المقدسة التي تحوّلت إلى محطة فقط في جولتهم داخل إسرائيل.

وقد تزامن التوسّع الاستعماري خارج حدود المدينة مع تضييق سلطات الاحتلال على التطور العمراني للفلسطينيين داخل حدود المدينة، وذلك باستعمال التخطيط الحضري آليةً لمصادرة الأراضي ومحو الوجود الفلسطيني، من أجل تحقيق أغلبية يهودية في القدس. وضمن المسعى نفسه، ألغت سلطات الاحتلال حتى نهاية عام 2017 مكانة "الإقامة الدائمة" (المتمثّلة ببطاقة الهوية الزرقاء) لأكثر من 14595 فلسطينيًا يسكنون في الأحياء العربية في القدس، وهي وثيقة منحتها سلطات الاحتلال للمقدسيين بعد احتلالها القدس؛ إنها أقلّ من المواطنة، ولكنها تضمن الإقامة الدائمة، وكأن المقدسيين دخلوا إلى إسرائيل، وحصلوا على إقامة فيها، وليس العكس. وبذلك يخسر المقدسي "إقامته الدائمة" في القدس، إذا غادرها مدةً تزيد على ثلاث سنوات متواصلة.

إضافة إلى السياسات الاستعمارية في القدس، تعكف أحزاب يمينية مختلفة في الكنيست، منذ آب/ أغسطس 2014، على تشريعٍ لتنفيذ مخططٍ للتقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى، ما يعني تخصيص أوقاتٍ ومناطق محددة لدخول المسلمين إلى المسجد الأقصى، وأخرى لدخول اليهود، في استنساخٍ لتجربة المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل. وقد تزامن العمل على تشريع هذا المخطط مع ممارسة سلطات الاحتلال سلسلة من الانتهاكات المتصاعدة والممنهجة، في المسجد الأقصى ومحيطه خلال السنوات الأخيرة، مثل إغلاق بوابات المسجد أمام المصلين والعاملين فيه في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، ومحاولة تثبيت بواباتٍ إلكترونيةٍ على مداخل المسجد في تموز/ يوليو 2017، كما كثّفت سلطات الاحتلال من عمليات إبعاد الفلسطينيين عن المسجد الأقصى واعتقالهم؛ إذ بلغ عدد المبعدين عن المسجد عام 2020 نحو 315، وبلغ عدد المعتقلين نحو 1979. وغالبًا ما تقطع قوات الاحتلال أسلاك سماعات المسجد الأقصى الخارجية، وتتعرّض لموظفي دائرة الأوقاف الإسلامية، وتخرّب أقفال أبواب المسجد الأقصى ومرافقه، وتقتحم المسجد الأقصى على نحو متكرّر لحماية دخول مستوطنين يهود متطرّفين إليه؛ فقد بلغ عدد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد عام 2020 أكثر من 18526 مستوطنًا.

أسباب الهبّة 

نظرًا إلى تمتعها برمزية سياسية وتاريخية ودينية لدى الفلسطينيين، ونتيجة لبقائها خارج اتفاقيات أوسلو وخارج نفوذ السلطة الفلسطينية، بوصفها من قضايا الحل الدائم، ظهرت القدس بوصفها بؤرة احتكاكٍ بين السكان الفلسطينيين وقوات الاحتلال، تقود إلى تفجّر حالة الاحتقان والغضب الشعبي ضد الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة فيها، والتي شكلت عامل استفزازٍ لمشاعر الفلسطينيين طوال سنوات نضالهم ضد الاحتلال، وبرز ذلك تحديدًا في هبّة النفق، احتجاجًا على حفر نفق أسفل المسجد الأقصى في أيلول/ سبتمبر 1996، والانتفاضة الفلسطينية الثانية أو انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر 2000. كما اشتدّت هذه المواجهات في السنوات الخمس الأخيرة، وذلك في هبّة القدس، أو "هبّة أكتوبر" في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وهبّة البوابات الإلكترونية حول المسجد الأقصى في تموز/ يوليو 2017، وهبّة باب الرحمة في المسجد الأقصى في شباط/ فبراير 2019. 

تعمل الجمعيات الاستيطانية داخل القدس القديمة وخارجها على نحو مثابر ومنهجي على نقل ملكية عقارات عربية من بيوت وأراضٍ لتوطين مستوطنين متطرّفين داخل الأحياء العربية

ومع بدء شهر رمضان في نيسان/ أبريل 2021، تصاعدت انتهاكات سلطات الاحتلال بحق القدس والمسجد الأقصى، بغرض تنفيذ مخطط التقسيم الزماني والمكاني، وبرز ذلك بوضع حواجز حديدية لمنع الفلسطينيين من المكوث في ساحة باب العامود، واعتقال شبّان وأطفال مقدسيين كانوا في المسجد الأقصى، واقتحام المسجد وإخراج المصلّين منه، والاعتداء على كل من يحاول الوصول إلى كنيسة القيامة، للاحتفال بسبت النور في نيسان/ أبريل 2021، وحماية مستوطنين متطرّفين دعوا إلى اقتحام المسجد الأقصى. وقد تزامن هذا التصعيد مع دخول قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الصادر في أيلول/ سبتمبر 2020 حيّز التنفيذ في 2 أيار/ مايو 2021، والقاضي بطرد أربع عائلات فلسطينية من حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وتسليم بيوتهم لصالح شركة "نحلات شمعون" الاستيطانية، وهي جمعيةٌ استيطانيةٌ يهوديةٌ تتألف من نحو 40 عائلة يهودية مهاجرة من جورجيا، تدّعي ملكية الأرض المسمّاة "كرم الجاعوني". وكانت عائلة الكرد قد تعرّضت للطرد من جزء من منزلها في الحي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، وتكرّر المشهد في آب/ أغسطس 2009 بطرد عائلتي حنون والغاوي من منزليهما في الحي ذاته.

وتعمل الجمعيات الاستيطانية داخل البلدة القديمة وخارجها على نحو مثابر ومنهجي على نقل ملكية عقارات عربية من بيوت وأراضٍ لتوطين مستوطنين متطرّفين داخل الأحياء العربية، وذلك بدعم مالي سخي من ممولين يهود كبار في الولايات المتحدة وغيرها، وتعمل على نحو منهجي برعاية وزارات إسرائيلية وبلدية القدس.

سمات هبّة القدس 

على الرغم من أن النضال الفلسطيني في القدس مستمر منذ احتلالها، فإن ثمّة سمات تميّز الهبّة الأخيرة، أهمها:  

  1. 1. بروز المقاومة الشعبية العفوية على نضال المقدسيين بعيدًا عن العمل الحزبي والفصائلي المنظم، فبعد حراك عفوي شبابي غير منظّم، أجبر المقدسيون الشرطة الإسرائيلية على إزالة الحواجز الحديدية من ساحة باب العمود في 25 نيسان/ أبريل 2021، بعد أسبوعين على نصبها. كما دفع نضال المقدسيين بمشاركة شباب وطلاب جامعيين من أراضي الـ 48 المحكمة العليا الإسرائيلية في 9 أيار/ مايو 2021 على تأجيل البتّ في ملف طرد عائلاتٍ فلسطينيةٍ من منازلها في حي الشيخ جرّاح، بعد طلبٍ قدّمه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، أفيخاي مندلبليت، جاء عقب مظاهراتٍ يوميةٍ طالبت بإنقاذ الحي من التهجير القسري والتطهير العرقي لسكانه. كما قدّم المقدسيون والمتضامنون معهم، مستفيدين من تراكم خبرة نضالية في السنوات الخمس الأخيرة، أشكالًا متنوعة من المقاومة الشعبية ضد سلطات الاحتلال؛ ففضلًا عن المظاهرات اليومية، كثفوا من استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، لإيصال صوتهم إلى العالم، وتشجيع الفلسطينيين على القدوم إلى القدس، وتكثيف تفاعل عدد من المؤثّرين على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم لكتابة منشوراتٍ ونشر صور وتسجيلات مصوّرة عن جرائم الاحتلال في القدس. كما تعزّزت أشكال التضامن والتكافل الاجتماعي في القدس، بإقامة الصلوات وتناول الإفطار الجماعي في شهر رمضان، وتعزّز أيضًا تفاعل المقدسيين مع حضور فلسطينيي الداخل إلى القدس، ولا سيما عندما منعت سلطات الاحتلال المصلين القادمين من الداخل من الوصول إلى القدس، وإنزالهم من حافلاتهم، فنقلهم المقدسيون بسياراتهم وباصاتهم إلى القدس.

يهدف رد الفعل الإسرائيلي إلى تدمير البنية التحتية التي مكّنت فصائل المقاومة من إنتاج الكم الكبير من الصواريخ

(2): قرّرت حركة حماس في غزة أن تتفاعل مع ما يجري في القدس، بحيث يكون ثمّة ردعٌ فلسطيني ما ضد إجراءات الاحتلال فيها، ولا سيما أن هناك تجاهلًا دوليًا للقدس منذ نقل السفارة الأميركية إليها، وعجزًا فلسطينيًا رسميًا عن فعل أي شيء. وفي غياب إطار وطني شامل يجمع القوى الفلسطينية الرئيسة، جاء قرار حركة حماس منفردًا. وقد تفاعلت فصائل المقاومة في غزة مع هبّة القدس، بإطلاقها عملية "سيف القدس" التي أظهرت تطوّر قدراتها النوعية في صناعة صواريخ محلية، اخترقت القبّة الحديدية الإسرائيلية، ووصلت إلى مناطق مختلفة داخل إسرائيل. وفي غضون أسبوع من إطلاق عملية "سيف القدس"، أطلقت فصائل المقاومة أكثر من 3000 صاروخ تجاه اسرائيل، أي قرابة 500 صاروخ في اليوم الواحد. وعلاوة على كثافة النيران، برز أيضًا تطوّر نوعية الصواريخ ومداها، ولا سيما صاروخ A120، الذي أطلقته فصائل المقاومة تجاه القدس المحتلة في 10 أيار/ مايو، وحمل رؤوسًا متفجّرة ذات قدرة تدميرية عالية ويصل مداه إلى 120 كيلومترًا. كما برز صاروخ "عياش 250" الذي أطلقته فصائل المقاومة تجاه مطار رامون الدولي في 13 أيار/ مايو، ووصل مداه إلى 220 كيلومتر، وهو أبعد مدى وصل إليه صاروخ فلسطيني منذ أول صاروخ أطلقته فصائل المقاومة عام 2001 تجاه مناطق إسرائيلية. كما نفذت فصائل المقاومة هجمات باستعمال طائرات مسيّرة محلية الصنع من طراز "شهاب"، تستعمل أول مرة، استهدفت مراكز إسرائيلية، بينها منصّة غاز قبالة ساحل شمال غزة. وينبغي لنا أن نتذكّر أن هذه الصواريخ طُوّرت وصُنّعت في قطاع غزة في ظل حصار خانق يتعرّض له القطاع منذ عام 2007. وفي المقابل، وفي إطار محاولة ترهيب الفلسطينيين وإخضاعهم في غزة، كثّف الجيش الإسرائيلي من عدوانه على المدنيين الفلسطينيين؛ إذ في غضون أسبوع واحد سقط أكثر من 200 مدني فلسطيني في غزة، بينهم 58 طفلًا و34 امرأة، ونزح نحو 34 ألف فلسطيني. كما كثّف الجيش من غاراته لتدمير البنية التحتية، إذ بلغ عدد المباني التي قُصفت في غضون أسبوع نحو 90 بناية، بينها ستة أبراج سكنية، ثلاثة منها دُمّرت تدميرًا كاملًا، فضلًا عن تدمير محطات المياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والإنترنت. ولئن كان هدف المقاومة هو إظهار رفض عزل غزة عن بقية الشعب الفلسطيني وإدخال عنصر الردع إلى المعادلة في القدس، بحيث لا يستفرد الاحتلال بها، فإن الرد الإسرائيلي التدميري الشامل يهدف إلى منع غزة من تكرار محاولة الردع هذه، وتكريس الاستفراد الإسرائيلي في القدس، باعتبارها ملفًا خاصًا بإسرائيل حصرًا. كما يهدف رد الفعل الإسرائيلي إلى تدمير البنية التحتية التي مكّنت فصائل المقاومة من إنتاج هذا الكم من الصواريخ.

مثلت الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح وقطاع غزة المحفز الرئيس الذي دعا الفلسطينيين في مدن الداخل إلى المشاركة الواسعة في الهبّة

(3): مثلت الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح وقطاع غزة المحفز الرئيس الذي دعا الفلسطينيين في مدن الداخل إلى المشاركة الواسعة في الهبّة الشعبية الأخيرة. لكن عنف المستوطنين اليهود المتطرّفين خلال الأحداث الأخيرة بحماية الشرطة الإسرائيلية، والذي برز مع استشهاد موسى حسونة في مدينة اللد بعد إطلاق مستوطن متطرف يهودي النار عليه في 10 أيار/ مايو، أشعل انتفاضة شاملة في جلّ مدن الداخل، ولا سيما فيما تسمّى المدن المختلطة التي احتُلت عام 1948، والتي يسكنها حاليًا فلسطينيون ويهود. وقد انطلقت مظاهرات حاشدة في مدن وبلدات عربية رفعت فيها أعلام فلسطينية ندّدت بالعدوان الإسرائيلي على القدس وغزة. وبعد اتساع رقعة المظاهرات في مدن الداخل وأحيائه وقراه، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 12 أيار/ مايو، عن حالة طوارئ خاصة في مدينة اللد، ومنح المفتش العام للشرطة الإسرائيلية، يعقوب شبتاي، الصلاحيات بإدخال الجيش الإسرائيلي إلى مدن الداخل لمساعدة الشرطة الإسرائيلية في وقف التظاهرات. وقد حفّز ذلك المستوطنين المتطرفين على تصعيد عنفهم تجاه الفلسطينيين، بالاعتداء عليهم في البيوت والشوارع والمتاجر والجامعات، سيما في عكا ويافا وحيفا واللد، واعتقال الشرطة الإسرائيلية أكثر من 700 فلسطيني منذ 9 أيار/ مايو، وإطلاقها الأعيرة المعدنية المغلّفة بالمطاط والغاز المسيل للدموع صوب المتظاهرين الفلسطينيين. وقد أكدت الهبّة على رفض فلسطينيي الداخل الفصل بينهم وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وربط مطالبتهم بحقوقهم القومية والمدنية بدفاعهم عن القضية الفلسطينية.

بات مطلوبًا من كل القوى والفصائل الفلسطينية وقف التعامل مع قضية التحرّر من الاحتلال وفق مبدأ رد الفعل، والاتفاق على استراتيجية نضالية موحدة

(4): خرجت مظاهرات محدودة في الضفة الغربية منذ تصاعد وتيرة الهبّة الشعبية في 9 أيار/ مايو، بادر إليها شباب غير محسوب على القوى والفصائل الفلسطينية، وانضمّت إليها فصائل من ضمنها حركة فتح، لكن هذه المظاهرات اتّسعت وانتشرت بكثافة بعد صلاة الجمعة في 14 أيار/ مايو، لتشمل مختلف أرجاء مدن الضفة، منها الخليل ورام الله والبيرة وبيت لحم وسلفيت وقلقيلية وطولكرم وأريحا ونابلس، سقط خلالها 11 شهيدًا وعشرات الجرحى. وارتفع العدد إلى 21 شهيدًا، بينهم طفلٌ مع نهاية يوم 16 أيار/ مايو، وهو ما عُدَّ تصعيدًا عسكريًا إسرائيليًا لمنع الضفة الغربية من المشاركة بكثافة في الهبّة الشعبية، مخافةَ تحوّلها إلى انتفاضة جديدة، كما حدث عام 2000. وعلى الرغم من مسارعة بعض القوى والفصائل إلى الدعوة إلى "النفير العام" في مختلف محافظات الوطن، بما فيها الضفة الغربية، ظلّت استجابة جيل الشباب في الضفة الغربية تؤكد على عفويتها غير المقيّدة بالأطر السياسية، سيما أن شريحة كبيرة منهم تشعر بخيبة أمل من سلوك السلطة والقوى والفصائل الفلسطينية، بسبب تراكمات عدة، آخرها تأجيل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الانتخابات الفلسطينية، في 29 نيسان/ أبريل.

ولا شك في أن هبّة الضفة الغربية تتضمن بوادر انتفاضة شاملة يمكن أن تمنع مواصلة الاحتلال سياساته بعد وقف إطلاق النار في غزة، كما يمكن أن تمنع انتكاسةً بعد الصمود الأسطوري لغزة. إن تحويل الهبّة الشعبية إلى انتفاضة شاملة أمر ممكن، لو توافرت الإرادة السياسية لدى السلطة الفلسطينية، وإذا أدركت أنه ليس أمامها بديل آخر. 

خاتمة

تنشط جهود دبلوماسية إقليمية ودولية لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وتقييد الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في القدس، لكن هذه الجهود ما زالت تصطدم بتعنّت إسرائيلي مرتبط من جهة برغبة نتنياهو في تحقيق نصر أمام الرأي العام الإسرائيلي، بعدما وضعت فصائل المقاومة ستة ملايين إسرائيلي في مرمى صواريخها، وبعدما أظهر الفلسطينيون وحدتهم في مواجهة سياسات التجزئة والتهويد والأسرلة. ومن جهة أخرى، يسعى نتنياهو إلى القضاء على فرص خصمه يائير لبيد، زعيم حزب "يوجد مستقبل"، المكلف في 5 أيار/ مايو 2021 بتشكيل حكومة جديدة في إسرائيل. لكن، وبغضّ النظر عن الطريق التي ستسلكه المواجهات، سواء في اتجاه تصعيد العدوان الإسرائيلي، أو التوصل إلى اتفاق تهدئة عبر وساطات إقليمية ودولية، بات مطلوبًا من كل القوى والفصائل الفلسطينية وقف التعامل مع قضية التحرّر من الاحتلال وفق مبدأ رد الفعل، والاتفاق على استراتيجية نضالية موحدة، تسخّر كل أشكال العمل النضالي في الداخل والخارج لخدمة مشروع إنهاء الاحتلال، بدلًا من التركيز على تكريس وجود سلطةٍ تخدم وتعزز وتطيل بقاءه. وهذا لا يمكن أن يحصل من دون إطار وطني جامع.