البرنامج الانتخابي للمرشّح السادس

البرنامج الانتخابي للمرشّح السادس

08 مايو 2021
+ الخط -

في الرواية الشهيرة لجورج أورويل، 1984، لا يكتفي الحاكم المستبد "الأخ الأكبر" بالسيطرة المطلقة على حيوات أبناء شعبه، بل يدخل عوالمهم الخاصة للتحكّم بها. ويرفع الكاتب درجة السوريالية في الرواية إلى أقصى درجاتها، عندما يتحايل على بطل الرواية (وينستون سميث وحبيبته جوليا)، أحد المناهضين للنظام (يتبين أنه من عناصر شرطة الفكر) للإفصاح عن معارضتهم النظام الشمولي، الأمر الذي يودي بهما إلى وزارة الحب، أسوأ فروع المخابرات، ليخضعا لعملية تعذيب بشعة، تعقبها عمليات غسل دماغ لإعادة تأهيلهما، معجبين ومحبين للأخ الأكبر!

المقاربة المطروحة هنا أن النظام السوري الذي قتل واعتقل ما يقرب من المليون إنسان، وشرّد نصف شعبه، واستقدم قوات ومليشيات أسوأ الدول ليساهم في تقسيم البلاد، يريد إجراء انتخابات "تنافسية شفافة"، لتثبيت فوزٍ رابع للولد الثاني (بشار) ابن الأخ الأكبر (حافظ). ليس هذا فحسب، تحاول وزارة "الحقيقة" إظهار أن القابعين تحت نيره سيصوّتون كالمعتاد بدمائهم، وبكل الحب والإعجاب لقائدهم الفذ، في واحدةٍ من أزهى الأعراس الديمقراطية. كانت السوريالية في الانتخابات الأسدية قد بدأت، عندما أعلنت صحف حكومية مطلع العام الجاري (2021)، أن محبي الولد، سيسلمونه رسالة يبلغ طولها كيلومترين، تحمل تواقيع مليوني ونصف مواطن، بعنوان "أطول رسالة حب في العالم"، يتم توجيهها إلى "رجل السلام الأول السيد الرئيس بشار الأسد"!

ولإعطاء هذه المهمة شكل الانتخابات، يتم إشراك مؤسسات الدولة، كالمحكمة الدستورية ومجلس الشعب، في عملية الترشيح، ويُطلب من بعض المواطنين التقدّم للترشح، ليبلغ عدد المرشحين 51، بينهم سبع نساء. وللإغراق في الملهاة/ المأساة الانتخابية، يتأخر الولد بتقديم أوراق ترشّحه، لإحداث درجة من الترقب الرهيب، ليكون رقمه السادس، وهو رقمٌ لا يحمل أي خصوصية ولا تمايز.

للإغراق في الملهاة/ المأساة الانتخابية، يتأخر الولد بتقديم أوراق ترشّحه، لإحداث درجة من الترقب الرهيب، ليكون رقمه السادس، وهو رقمٌ لا يحمل أي خصوصية ولا تمايز

ومع أننا لا نعرف الكثير عن المرشحين الخمسين الآخرين، وجميعم من محبي ابن الأخ الأكبر حسب تقييم الأجهزة الأمنية وتزكيتها، فإن لدينا ما ينيف عن العشرين عاماً من "إنجازات" المرشح السادس، بشار حافظ الأسد، و"عطاءاته". وبما أن المرشح السادس لم يطرح برنامجاً انتخابياً في السابق، إذ تم اعتماد شعارات "منحبك" في استفتاء 2007، و"سوا" في عام 2014، يتساءل بعضهم عن ماهية برنامجه هذه المرّة، وقد تقسّمت البلاد بين خمسة جيوش أجنبية عدا عن المليشيات، وقارب الجزء الذي يسيطر عليه الولد حد الانهيار نتيجة الفقر والعوز ونقص السلع الأساسية والغلاء وتراجع سعر الصرف للعملة المحلية وانهيار ما تبقى من النظام الصحي أمام جائحة كورونا. ونظراً إلى خصوصية هذه الانتخابات، وعقدها في ظروف "استثنائية"، فلن يتمكّن النظام من بلورة برنامج انتخابي تفصيلي، لكنه سيعتمد على مجنّدي وزارة الحقيقة، لإبراز إنجازاته السابقة والبناء عليها.

لكن ومهما بلغت درجة تذاكي ابن الأخ الأكبر وأجهزته، فهل سيستطيعون تحوير سجل النظام وعكسه؟ فبالنظر إلى عقدين من حكم الولد، يمكن تقسيم عهده إلى مرحلتين: الأولى، تلخص السنوات العشر الأولى من حكمه، والثانية تبدأ مع انطلاق الثورة السورية، وتمثل السنوات العشر الأخرى. في السنوات العشر الأولى، هناك سجل متواضع على صعيد "الإنجازات"، خصوصا مع الإشكالات الداخلية التي تفاقمت مع مرور الوقت، وذلك بإنكار (وإهمال) التعاطي معها باسم التحديات الخارجية (المؤامرة المستمرة على محور المقاومة)، أو من خلال تقديم حلول مهدّئة. ويكفي هنا استحضار طريقة النظام في قمع ربيع دمشق، وحركة إعلان دمشق، وما بينهما من التخطيط لعملية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، وجهوده للتنصل منها. واقع الأمر أن النظام استطاع الخروج من دائرة المساءلة عن هذه الجريمة، بخبرته المعهودة المبنية على استعداده للانحناء أمام العاصفة، ودفع فاتورة قاسية، تمثلت في انسحاب القوات السورية من لبنان بعد ثلاثة عقود من وجودها هناك، وإدراكه تناقض المصالح الدولية وضعف الآليات الأممية للمساءلة والمحاسبة في الجرائم التي لا تمسّ مصالح الكبار.

بالنسبة إلى أغلبية الشعب السوري المضطهد، وكذا المجتمع الدولي العاجز، لا تقدّم المسرحية الانتخابية الهزلية ولا تؤخر شيئاً على طريق شرعنة النظام أو إعادة تأهيله

أما سجله في العقد الثاني من حكمه فهو مرتبط بأحداث وتطورات الثورة/ المأساة السورية. لقد لجأ النظام، منذ الأيام الأولى للثورة، كما تبين من الظهور الأول للولد أمام مجلس شعبه، إلى سرديةٍ ملخصها أن النظام العلماني التقدّمي المقاوم يواجه "مؤامرةً كونية" من الأعداء الداخليين المتمثلين بقوى التطرّف والظلام، مدعومين من دول إقليمية لا تمتّ للحرية والديمقراطية بصلة، وأخرى دولية هاجسها معاقبة النظام على مواقفه المشرّفة بدعم المقاومة لإسرائيل ومشروعها التوسعي. لكن السردية وحدها لا تكسب مواجهة ضد شعبٍ قد انتفض بعد عقود من القمع والتخويف والتجويع، وحظي بتفهم أغلبية دول المجتمع الدولي ودعمها. لقد أنعم نظام ابن الأخ الأكبر على شعبه بدستور جديد (2012)، وأجرى أول انتخابات تنافسية منذ عام 1963، ليفوز فيها بنسبة فاقت 88%، لكن هذه الترتيبات لم تُسبغ على الولد ذرّة إضافية من الشرعية. ومع صعوبة التحدّيات التي واجهها النظام في حربه ضد شعبه، فقد تمكّن من الاستبداد بالحكم بفعل العوامل التالية:

أولاً، انتهاج استراتيجية استخدام أقصى درجات العنف والقمع ضد شعبه، والاستعداد للتخلي عن أجزاء من البلاد التي لا يمكن السيطرة عليها، لكن بعد إحراقها وتدميرها. في الشق الأول من هذه الاستراتيجية، تدرّج النظام في استخدام ترسانته العسكرية ضد "الإرهابيين" من شعبه، بدءاً بالقنص والمدفعية والدبابات، وصولاً إلى السلاح الجوي والبراميل المتفجرة، وأخيراً السلاح الكيماوي المحرّم دولياً. كما استخدم النظام سياسة الحصار والتجويع ضد المناطق التي خرجت عن سيطرته. واستغل النظام تحوّل الثورة السلمية إلى مقاومة مسلحة، بعد أشهر من القمع الممنهج، وكذلك دخول تنظيمات متطرّفة على خط الثورة الوطنية المدنية، وهو ما ساهم النظام فيه بشكل كبير. وعلى مدى السنوات الفائتة، وثّقت المنظمات الدولية والحقوقية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبتها الأطراف المتنازعة، لكن كان للنظام نصيب الأسد منها (أكثر من 90%). استراتيجية الأرض المحروقة التي انتهجها النظام، عبّر عنها مؤيدوه بمقولة: "الأسد أو نحرق البلد". لقد تم تدمير أكثر من 60% من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وقُتل، حسب التقديرات المتواضعة، أكثر من 700 ألف سوري، وجرح أكثر من مليون إنسان، وتم تهجير أكثر من نصف الشعب السوري داخل البلاد وخارجها. ولقد قال مسؤول أميركي سابق في مجال حقوق الإنسان إن المجتمع الدولي يملك أكبر عدد من الوثائق التي تجرّم النظام، مقارنة بالجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النازيون، أو التي مورست في بعض دول القارة الأفريقية. الأمر المهم أنه بالنسبة لرأس النظام ومعاونيه، هذا ثمنٌ مقبولٌ للحفاظ على الحكم، فالبلاد الآن بالنسبة لهم "أكثر تجانساً"، وفي حال أفضل، بعد أن تم التخلص من الإرهابيين وداعميهم.

العامل الثاني الذي يفسّر استمرار الأسد في الحكم يتمثل في دور القوى الإقليمية والدولية، خصوصا بعد تحول الصراع في سورية إلى صراع إقليمي/ دولي. وهنا يمكن تبسيط هذا العامل إلى ثنائية، أحد أوجهها القوى التي دعمت النظام، والأخرى التي عارضته. بالنسبة للقوى التي وقفت مع النظام، وعلى الرغم من قلتها، إلا أنها كانت أكثر فاعلية من 114 دولة أطلقت على نفسها اسم "أصدقاء الشعب السوري"، وكانت في صف المعارضين للأسد. إيران وذراعها اللبناني، حزب الله، قدّمت الدعم المالي والعسكري والسياسي، وجنّدت عشرات الآلاف من المليشيات الطائفية، حاربت قوى المعارضة بالنيابة عن النظام، وساهمت في منع انهياره عسكرياً. لكن الدور الحاسم كان لروسيا التي انتقلت من الدعم السياسي والعسكري في السنوات الأولى إلى التدخل المباشر في سبتمبر/ أيلول عام 2015، لتقلب موازين القوى العسكرية لصالح النظام، وتساعده في تحوير العملية السياسية لضمان بقائه. الوجه المقابل للدور الإقليمي والدولي تمثل في عجز المجتمع الدولي بأغلبية أعضائه، بمن فيهم أكثر الدول العربية وتركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، عن وضع حد لجرائم النظام، وحماية المدنيين، أو على الأقل مجاراة داعمي النظام في إحداث توازن قوى، لتطبيق حل سياسي، تمت صياغة إطاره من خلال وثيقة بيان جنيف لعام 2012، وقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015.

سيفاقم سيرك الانتخابات من معاناة السوريين القابعين في جمهوريةٍ هي أقرب إلى وزارة الحب في جمهورية رواية 1984

بالنسبة إلى أغلبية الشعب السوري المضطهد، وكذا المجتمع الدولي العاجز، لا تقدّم هذه المسرحية الانتخابية الهزلية ولا تؤخر شيئاً على طريق شرعنة النظام أو إعادة تأهيله. أما بالنسبة للدول الداعمة للنظام، وخصوصا روسيا وإيران، فمهزلة إعادة انتخاب الولد متناسقة تماماً مع أنظمة حكمها، فقد مرّر "الأخ الروسي الأكبر" تعديلاتٍ دستورية تسمح له بالبقاء في الحكم حتى عام 2036، بينما يحكم "المرشد الأعلى" مدى الحياة في جمهورية الثورة الإسلامية. كما أن هاتين الدولتين تحاولان التمسّك برأس النظام، لأنه الضامن الأكبر لمصالحهما، وذلك على حساب البقية الباقية من الشعب السوري. وهنا نأتي إلى البقية الباقية من السوريين القابعين تحت نير النظام، خصوصا الذين يعتبرون أنفسهم من مؤيديه، أو من الرماديين الساعين إلى دفع أسباب الموت المحيطة بهم من كل حدب وصوب، من حق هؤلاء أن يسألوا: ماذا سيقدّم لهم نظام محاصر ومفلس وقابع تحت الوصاية الروسية/ الإيرانية على مدى السنوات السبع المقبلة؟ وكما يقول المثل الشعبي "المكتوب مبين من عنوانه"، لم يستطع النظام وداعموه تحويل "نصرهم" العسكري إلى نصر سياسي، لسببين: توهم النظام أنه حقق بالفعل نصراً عسكرياً ضد شعبه، فلا رابح في الحروب الأهلية؛ وأن القوى الدولية الغربية قد قرّرت حرمان النظام وحلفائه من إعلان النصر السياسي، بفرض عقوباتٍ جديدةٍ مشروطةٍ بانتقال سياسي جوهري، ليس على شاكلة انتخابات ابن الأخ الأكبر.

الخلاصة، سيفاقم سيرك الانتخابات من معاناة السوريين القابعين في جمهوريةٍ هي أقرب إلى وزارة الحب في جمهورية 1984. مأساة العملية لا تعدم روح الدعابة لدى السوريين، إذ يتساءل بعضهم: ماذا لو لم يوافق 35 عضواً من أعضاء مجلس الشعب الموقر على دعم المرشح السادس؟ وماذا لو أقرّ المراقبون الدوليون من كوريا الشمالية وأبخازيا وكوبا وفنزويلا بأن العملية الانتخابية غير سليمة؟ وأخيراً، ماذا لو قرّر السوريون الذين لم تنجح عمليات إعادة تأهيلهم التصويت لغير المرشح السادس؟ مجرّد التفكير في هذه المستحيلات هو مصدر كوابيس للسوريين الذين يحبسون أنفاسهم حتى تمر هذه العملية بسلام!

نجيب الغضبان
نجيب الغضبان
كاتب وأكاديمي وناشط سوري في الولايات المتحدة، دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة نيويورك