ثورة أوكرانيا والصراع الروسي الأوروبي

ثورة أوكرانيا والصراع الروسي الأوروبي

20 ابريل 2014

متظاهرون أوكرانيون يواجهون عنف السلطة 13 إبريل 2014(Getty)

+ الخط -
انطلقت كل التحليلات التي تناولت الثورة في أوكرانيا من أنها انعكاس للصراع الروسي الأوروبي، أو أنها رد أميركي أوروبي على روسيا، أي أنها وضعت في سياق الصراع الدولي. ولا شك في أن للصراع الدولي دوراً هنا، وأن النتائج على الأرض ستخدم هذا الطرف أو ذاك، لكن ذلك كله لا يجب أن يبدأ من "بديهية" أن الذي حرّك الثورة في أوكرانيا هو "الغرب"، فهذه "بديهية" غاية في السذاجة والسطحية. بالضبط، لأنها تنطلق من أن الشعوب أدوات جاهزة لتنفيذ "القرار الإمبريالي"، وهنا ضد روسيا "التحررية التي تدافع عن الشعوب"، كما في سوريا، وتقف حاجزاً أمام تقدم الإمبريالية (الأميركية).
ربما كان "العنصر المفجّر" للثورة رفض الرئيس يانكوفيتش توقيع الشراكة مع أوروبا، وهذا ما يمكن أن يعطي إيحاءً بأن للعنصر "الغربي" دوراً في الرد من خلال استثارة الشعب، طبعاً عبر أحزابٍ لا تعد تعبيراتٍ عن مصالح طبقية محلية، بل تعتبر عميلة لـ "الإمبريالية".
ولا شك، أيضاً، في أن صراعاً يجري بين القوى الإمبريالية، أوروبا وأميركا من جهة، وروسيا من جهة أخرى، بشأن وضع أوكرانيا، والوجهة التي يجب أن تسير فيها. فالعالم عاد يشهد مثل هذه الصراعات، بعد ضعف السيطرة الأميركية، ونشوء دول لها مطامح إمبريالية، تريد الاستحواذ على الأسواق كالإمبرياليات الأخرى (روسيا والصين).
وبالتالي، من دون شك، ستكون أوكرانيا جزءاً من هذا الصراع، وهي المهمة لروسيا ولأوروبا معاً، ومهمة في تحديد وضعية كل منهما، كقوى إمبريالية، تريد تثبيت سيطرتها، وتعزيز قوتها، وخصوصاً وهي تشهد أزمات عميقة متعددة الأشكال.
لكن ذلك كله لا يساوي القول إن ما حدث "مؤامرة إمبريالية"، وإن الأمر تحريك إمبريالي للشعب ضد النفوذ الروسي الذي يمثله يانكوفيتش. فربما تستفيد أوروبا مما حدث، وتخسر روسيا، لكن هذا لا يعني البتة أن "معركةً خارجية" خيضت لإخراج النفوذ الروسي. هنا، يظهر "سوء الفهم"، أو "سوء الطوية"، حيث لا يبدو أن الطبقات المفقرة، أن الشعوب، هي محل نظر، وتدخل في الحسابات السياسية، بل يظهر أَنها "أدوات" جاهزة للتحرك لمصلحة الإمبريالية. لأنها "كتل من الرعاع" و"الجهلة" الذين لا مصالح لهم، وليسوا موجودين في الواقع ليعانوا مشكلاته. أو أن "القيم السامية"، و"القضايا الكبرى"، هي التي تحظى بالأولوية، أَو تصبح المحدِّد لكل سياسة.
لكن، بعيداً عن الطبقات، بالضبط، لأن "سموها" و"كبرها" يحجب رؤية الطبقات، ويمحي الشعب. الشعب الذي لا يستحقها، أو، على الأقل، الذي يجهلها، لهذا يعمل بالضد منها، أَي في خدمة "الإمبريالية ومخططاتها". على الرغم من أن الشعب هو الأسمى، وأن "الإنسان أثمن رأسمال"، وأن الصراع، بالأساس، صراع طبقات، قبل أن يكون صراعاً بين دول، هي دول تمثّل مصالح طبقية تريد الإفادة من الصراعات العالمية لخدمتها. لكن هذا الصراع لا يجبّ الصراع الطبقي، بل يتأسس عليه. فالطبقة التي تضطهد داخلياً تسعى إلى النهب والسيطرة خارجياً، والطبقات التي تقاتل مستغليها تعمل على قتال كل المستغِلين.
هذا المنظور أعقد من أن يطاله فهم مبسط، يبني على "صراعات الدول"، ولا يرى الصراع الطبقي. لينطلق من منظور "استراتيجي"، أو "جيو سياسي"، بالضرورة لا يلمس الصراع الطبقي، لأنه منظور مثالي في واقعه.
هذا ما ظهر تجاه الثورات العربية، ويتكرر في أوكرانيا، وسيتكرر في ثوراتٍ أخرى، حيث ستُرى الإمبريالية جزءاً من الصراعات الدولية من جهة، وسيتحدد الموقف منها انطلاقاً من "المقياس التقليدي" الموروث عن الحرب الباردة الذي يقسم العالم إلى "فسطاطين" (ولوضع هذا المصطلح معنى، أي ليشير إلى العقلية ذاتها). والإمبريالية هي أميركا وحلفاؤها، والتحرر على رأسه روسيا والصين (ترجمة للفهم المبتسر للصراع العالمي في أثناء الحرب الباردة، حيث كان صراعاً بين الرأسمالية والاشتراكية، يتحدد في الصراع بين القوى الإمبريالية، وأميركا على رأسها، والاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية).
الأخطر، هنا، يتمثل في تحليل كل الصراعات المحلية انعكاساً للصراع العالمي، وليس رؤية الصراع الطبقي في كل بلد، ومن ثم رؤية الصراع العالمي ككل. الأولى تحجب رؤية الصراع الطبقي، لأنها تعتبره تبعاً للصراع العالمي، أما الثانية، فعلى العكس، تؤسس لفهم عميق لطبيعة الصراع العالمي، انطلاقاً من كل الصراعات المحلية، والتي هي صراعات طبقية.
إذن، في أوكرانيا، نلمس المنظور ذاته. ليصبح من هو ضد أميركا ومع روسيا ضد الثورة، ومن هو مع أميركا وضد روسيا حتماً مع الثورة. لكن، يجب أن نكون مع الثورة، بالضبط لأنها ثورة. وهذا يفرض فهم لماذا هي ثورة؟ أي لماذا ثار الشعب ضد سلطة يانكوفيتش؟ هل لأنه "حليف روسيا" مثلاً؟
لا شك في أن التدخل الروسي لفرض سلطة تابعة، ولفرض نمط اقتصادي، والضغط من خلال تزويد أوكرانيا بالغاز من أجل إخضاعها، كان يؤسس لرفض شعبي لروسيا.
لكن، كان ذلك جزءاً من وضع أعقد، حيث انتخب الأوكرانيون، في مرة سابقة، يانكوفيتش المعروف بتبعيته لروسيا، نتيجة فشل سياسات الأحزاب التي تميل إلى التحالف مع أوروبا. فقد وصل يانكوفيتش إلى السلطة بأصوات الأوكرانيين. وبالتالي، جذر الأزمة داخلي، وهذا ما يجب أن يلمس بوضوح لفهم طبيعة الصراع الذي يجري، قبل لمس طبيعة الصراعات الدولية على أوكرانيا.
وإذا كان الحديث يجري عن الفساد، تعلق الأمر بالرئيس الأسبق ورئيسة الوزراء السابقة أو بالرئيس الحالي، فإن الوضع الاقتصادي صعب، حيث لا حلول لكل المشكلات التي نتجت من تجاوز الاشتراكية والعودة إلى الرأسمالية، والتي أسست لنشوء مافيات واقتصاد مافيا، وأفضت إلى انهيارٍ كبير في الوضع المعيشي لقطاعات شعبية كبيرة.
جزء من الرأسمالية يحاول الترابط مع أوروبا، لتجاوز هذه المشكلات، وجزء آخر يريد الربط مع موسكو (وهذا ذو طابع مافيوي بارز)، وهو ما ينعكس في سياسات الأحزاب المتصارعة. وعلى الرغم من أن وجود أقلية روسية في الشرق، وارتباط جزء من الشرق الأوكراني بروسيا، يجعل الميل نحو روسيا هو الغالب، فإن قطاعات مجتمعية تعتقد أن حل مشكلات أوكرانيا الاقتصادية يرتبط باللحاق بأوروبا، وهذا ما يجعل للأحزاب الليبرالية ذات الميول الغربية قاعدةً أكبر. لكن هذه القاعدة سرعان ما تنهار، حال حكم هؤلاء، وفشلهم في حل المشكلات، من دون أن يعني ذلك التجاوز التام لوهم اللحاق بأوروبا، على الرغم من أنه، في هذه المرة، يبدو قد تقلّص.
من هذا المنظور، يجب أن ننظر إلى ما يجري في أوكرانيا كنهوض شعبي من أجل العدالة، لكن، في غياب البدائل، وتوزع الأوهام حول حلول المشكلات. فمن الواضح أنها باتت دولة ديمقراطية، لكن شعبها لا يتردد في إسقاط الحكومة التي لا تحقق مطالبه عبر الثورة. وهي، في هذا السياق، تأتي في ظل المسار العالمي الجديد الذي يشير إلى أننا بدأنا عصر الثورات من جديد.