النقابي والسياسي في تونس.. الاتحاد العام للشغل والصراعات الحزبية

النقابي والسياسي في تونس.. الاتحاد العام للشغل والصراعات الحزبية

20 ابريل 2015

تظاهرة نقابية في تونس يوم عيد العمال (1أيار/2014/الأناضول)

+ الخط -

منذ لحظة التأسيس سنة 1946، كان الاتحاد العام التونسي للشغل حاضراً بقوة في المشهد العام، من حيث مساهمته في الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وهو أمر وجد تجسده الأقصى في اغتيال فرحات حشاد، أول أمين عام للمنظمة، على يد عصابات اليد الحمراء التي شكلها المستعمر.

وبعد الاستقلال، ظل الاتحاد قريبا من مواقع السلطة الجديدة، حيث كان قريناً للحزب الدستوري الحاكم في إدارة الشأن العام، الأمر الذي سيتجلى في تبني برامج الاتحاد، الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً مع تولي أحمد بن صالح، القيادي السابق في الاتحاد، مناصبه الوزارية المتعددة في الستينيات، وطرح فكرة التحول نحو اقتصاد اشتراكي قائم على المخططات، واعتماد ما سيعرف حينها بسياسة التعاضد، والتي ستنتهي إلى الفشل، وسجن صاحبها، من دون أن يعني هذا فك أواصر الترابط بين الاتحاد والسلطة القائمة التي ظلت تحافظ على علاقة ود مع القيادات النقابية، حيث تمتع الاتحاد العام التونسي للشغل بامتيازات كثيرة، وبتمثيلية في برلمانات الحبيب بورقيبة التي لم تكن تعرف التعددية، غير أن هذا الوضع لم يبق على حاله، وإنما سيعرف حالة انفصالٍ، ستفضي إلى مواجهات ومصادمات بين الطرفين، في أثناء الأزمة الحاصلة سنة 1978، والتي تطورت إلى مواجهات عنيفة في الشارع، بين الشرائح العمالية وبوليس النظام، ما أفضى إلى سقوط قتلى كثيرين، بالإضافة إلى اعتقالات واسعة في صفوف النقابيين، واصطدمت بعدها كل محاولات النظام البورقيبي لتدجين الاتحاد برفض النقابيين. وظل الاتحاد كياناً محافظاً على نوع من الاستقلالية تجاه السلطة القائمة، على الرغم من أن علاقة التجاذب بين الطرفين ظلت قائمة على أساس أن المنظمة التي تدافع عن مصالح منظوريها، إنما هي الشريك الأساسي في أي مفاوضات اجتماعية، تجريها السلطة، وهي، في الوقت نفسه، القوة الاحتجاجية الأولى ضد أي إجراءات اقتصادية تتخذها الحكومة، ما أدى إلى صدام آخر بين الهياكل النقابية والسلطة سنة 1985، حيث حاول النظام الانقلاب على القيادة النقابية الشرعية، وتنصيب قيادة أخرى، تدين له بالولاء، وظلت العلاقة تتسم بالتوتر، إلى حين إطاحة الرئيس الحبيب بورقيبة.

وبعد انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 الذي أتى به إلى السلطة، حاول زين العابدين بن علي استمالة الاتحاد إلى جانبه، في محاولته إيجاد نوع من التقارب مع القيادة النقابية الجديدة في حينه (مؤتمر سوسة 1989)، بعد انسحاب القيادة التاريخية، ونعني بها الحبيب عاشور من المشهد. وقد حافظت قيادة الاتحاد على حياديتها، في أثناء المواجهة بين النظام والتيار الإسلامي. وغضت الطرف حول التجاوزات الحقوقية والانتهاكات، والتي قام بها النظام ضد خصومه من التيار الإسلامي، وعرفت عشرية التسعينيات فتوراً حقيقياً في العمل النقابي، على الرغم من التململ الذي كانت تعرفه القواعد العمالية التي لم تكن راضية تماماً على أداء قياداتها وتقاربها مع سلطة بن علي. وقد استمر هذا النمط من التساكن بين قيادة الاتحاد والسلطة السياسية القائمة، فلم تشهد فترة حكم بن علي مواجهات بين المنظمة العمالية والسلطة الحاكمة، على الرغم من أن قيادات نقابية وسطى، وتشكيلات نقابية منضوية في إطار الاتحاد، لم تكن غائبة عن مشهد المعارضة السياسية لسلطة الاستبداد القائمة حينها، وهو أمر يمكن تلمسه في إضراب الأساتذة سنة 2005، احتجاجاً على مشاركة وفد إسرائيلي في قمة المعلومات. وسيكون لهذا التململ، على مستوى القواعد العمالية والقيادات الوسطى، أثره في الثورة التونسية (17ديسمبر/كانون الأول 2010 /14 يناير/كانون الثاني 2011)، حيث انحاز النقابيون، وخلافا لإرادة قيادتهم المركزية، إلى التحركات الشعبية المناوئة لسلطة بن علي، وتصدروا قيادة التحركات، وكان للإضرابات العامة على مستوى الجهات دور كبير في إشعال فتيل الثورة، ومنحها القدرة على مواصلة الحراك، وهو أمر نلاحظه طوال الأيام التي سبقت فرار بن علي.

كل تلك التطورات، الواردة هنا بإيجاز، عن طبيعة العلاقة بين نظام ما قبل الثورة والاتحاد العام التونسي للشغل، تجد جذورها في البنية التنظيمية لهذه المنظمة العريقة التي حافظت على نوع من الممارسة الديمقراطية في صفوفها. وفي الوقت نفسه، ظلت قائمة على نوع من المركزية، تفرضها القوانين الأساسية للاتحاد، والتي تجعل من النشاط النقابي أكثر فعالية ونجاعةً وانضباطا مما يجري في أحزابٍ كثيرة، كما أن الاتحاد، في ذاته، ظل متنفساً لقوى سياسية كثيرة، تمكنت من إيجاد نفوذ لها داخل هياكله المختلفة، فالتقاطع بين السياسي والنقابي، في ممارسات الاتحاد العام التونسي للشغل، لم يكن يقتصر على علاقاته مع السلطة السياسية القائمة، سواء من حيث تحالفه، أو صدامه، معها. وإنما شمل، أيضاً، تقاطعات مع القوى الحزبية المختلفة الحاضرة في المشهد السياسي التونسي، حيث لا يخفى الحضور القوى للمجموعات اليسارية داخل هياكل المنظمة العمالية، وتأثيره على كثير من توجهاتها وقراراتها.

بعد الثورة، حملت التحركات التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل مسحة سياسية في جانب كبير منها، فبعد مؤتمر طبرقة (ديسمبر/كانون أول 2011) وصعود قيادة جديدة على رأس هذا الهيكل النقابي العريق، عرفت حركة الاحتجاج العمالي منعرجاً، خصوصاً من حيث علاقة قيادة الاتحاد، ذات التوجه اليساري، مع حكومة الترويكا المنتخبة. وليس خافيا أن تلك العلاقة شهدت توترا واضحا، وتجاذبات حادة، لا تخلو من خلفية سياسية، تجلت في دعوة الاتحاد إلى إضرابات عامة، وصولاً إلى مطالبة الهيئة الإدارية للاتحاد في 20 يوليو/تموز 2013 بحل الحكومة.

وقد شهدت مناطق تونسية مختلفة إضرابات عامة، قادها الاتحاد العام التونسي للشغل، احتجاجاً على بعض تجاوزات السلطة السياسية، أو للمطالبة بالتنمية الجهوية، خصوصاً في المناطق التي تعاني التهميش، مثلما حصل في مناطق الحوض المنجمي، حيث تم إيقاف العمل في المناجم بشكلٍ أثر على الاقتصاد التونسي المنهك بعد الثورة. وعرفت البلاد إضرابات عامة على خلفيات سياسية، مثل الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد اغتيال كل من شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (8 فبراير/شباط 2013) ومحمد البراهمي النائب في المجلس التأسيسي (26 يوليو/ تموز2013).

وبعيداً عن منطق التوصيف لحركة الإضرابات المتتالية في تونس ما بعد الثورة، فإن قراءة المنطق الداخلي للتحركات النقابية، تكشف عن جملة دلالات مهمة، أبرزها أن جانباً كبيراً من الإضرابات تميزت بعشوائيتها وعدم واقعية مطالبها، أحياناً. ويمكن تفسيرها بتراكم المظالم التي تعرضت لها الشرائح العمالية، طوال حكم الرئيس المخلوع بن علي، وقد وجدت هذه الفئات المختلفة في ضعف سلطة الدولة بعد الثورة فرصة لتحقيق بعض مطالبها، الأمر الذي أفضى إلى استخدام سلاح الإضراب أداة للتعبير عن الاحتجاج أحياناً (إضراب الجهات للمطالبة بالتنمية)، أو للضغط على السلطة، لإجبارها على الاستجابة لمطالب فئوية.

وبالإجمال، يمكن القول إن التقاطع بين السياسي والنقابي ليس جديداً في المشهد السياسي التونسي، فقد كان اتحاد العمال أحد القوى المركزية التي لعبت دوراً في مرحلة التحرير، أو في مرحلة ما بعد الاستقلال، كما كان له دوره في أثناء الثورة ضد نظام الرئيس بن علي، غير أن الوقائع تقول إن الوتيرة التي تصاعدت بها حركة الإضرابات العمالية التي عرفتها تونس ما بعد الثورة، وخصوصاً في أثناء حكم الترويكا، لم تعرف لها البلاد مثيلاً من قبل. فزمن حكم بن علي كانت المفاوضات الاجتماعية بين الحكومة والاتحاد تتم دورياً وبشكل كانت فيه الكلمة الأخيرة لرئيس الدولة، سواء في قضايا زيادة الأجور أو المسائل المطلبية الأخرى، إلا أنه بعد الثورة، تحول الاتحاد العام التونسي للشغل إلى طرف في المشهد السياسي، يتمتع بقوة وازنة، قادرة على فرض شروطها، وتتدخل في الشأن العام بشكل علني، دور تجلى في حضور الاتحاد في مشاورات الحوار الوطني التي كان شريكاً في رعايتها، وصولاً إلى إطاحة حكومة الترويكا، والمجيء بحكومة التكنوقراط، برئاسة مهدي جمعة.

وبعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014، وتشكل الحكومة الجديدة برئاسة الحبيب الصيد، عادت حركة الإضرابات بصورة حادة، بعد خفوتها فترة، وهو أمر يفسره بعضهم برغبة القوى الحزبية، ذات النفوذ في قيادة الاتحاد، في الضغط على الحكومة الجديدة، خصوصاً بعد استبعاد الجبهة الشعبية من المشاركة في الحكم، غير أن الإضرابات التي عرفتها تونس أخيراً (إضراب أساتذة التعليم الثانوي مثلاً)، وعلى الرغم من عدالة مطالبها ومشروعيتها، تتعرض إلى حملات إدانة وإثارة للرأي العام ضدها، من وسائل إعلام طالما أيدت تحركات اتحاد العمال زمن حكم الترويكا، الأمر الذي يشي بنهاية التحالف التكتيكي الذي عرفته البلاد، في فترة ما، بين الاتحاد والقوى الحزبية المناوئة لحكم الترويكا (خصوصاً نداء تونس الحاكم حاليا).

العمل النقابي يضمنه الدستور التونسي بوصفه حقاً أساسياً للعمال، غير أن التجاذبات السياسية التي تحف بتحركات نقابية وإضرابات عمالية كثيرة تلقي ظلالاً كثيرة من الشك حول الغايات الحقيقية لإضرابات كثيرة يدعو إليها اتحاد الشغل، وتفرض علينا البحث في مدى التقاطع بين السياسي والنقابي في تونس، وهل من الصالح العام توظيف الملفات الاجتماعية المهمة في إطار الصراعات الحزبية في تونس ما بعد الثورة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.