عن التحرّش في مصر ومواسمه

عن التحرّش في مصر ومواسمه

08 يناير 2020
+ الخط -
انشغل الرأي العام في مصر، أخيرا، بحادثة التحرّش التي تعرضت لها فتاة مدينة المنصورة في دلتا مصر، وهي حادثة ضمن حوادث متكرّرة، تأخذ طابع التحرّش الجماعي، والذي يحدث في الأماكن العامة، الشوارع والميادين. وغالبا يتزامن ويتكرر مع الاحتفالات العامة والأعياد. وتنتقل أغلب الحوادث من وسائل التواصل الاجتماعي إلى وسائل الإعلام لتصبح مجالا للنقاش. وللأسف يكون الاهتمام بها موسميا أيضا. قبل ظاهرة التدوين والوسائط الإلكترونية كان غالبا يتم تجاهلها، وكان بعضهم يرى في مناقشتها إساءة لسمعة الدولة، وهي رؤية ما زالت تجد صداها لدى قطاعاتٍ نسويةٍ رسمية، وتعكس شكلا من التواطؤ، ومحاولة إنكار المشكلات. 
يفرض تكرار حالات التحرّش نفسه. وللموضوعية، هناك جهود بذلها المجتمع المدني في إطار المطالبة بمعاقبة المتحرّشين، ووضع نصوص قانونية حاكمة للجريمة، وتم كسب التأييد والدعم لقضية مناهضة التحرّش. وفي هذا السياق، استطاع عدد من ضحايا التحرّش والعنف التقدم بشكاوى، وصولا إلى تقديم بعض الجناة للمحاكمة، ولكن هذا الجانب ما زالت تعتريه مشكلاتٌ في آليات الإبلاغ وإثبات الجريمة وسير التحقيقات. وعلى الرغم من تلك الجهود، يغيب الجانب الأهم، وهو معالجة مشكلة التحرّش الجماعي، ومحاولة فهم أسبابه وكيفية مواجهته، فالجهود المتعلقة بدراسة الظاهرة ما زالت غير كافية، وتشير إلى قصور أساسي في المواجهة.
بحث ظاهرة انتشار مجموعات التحرّش الجماعي في مصر لا بد أن ينطلق من إطار واسع
وشامل، يربط ما بين التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلاقتها بالتركيبة الثقافية والنفسية لهذه المجموعات، للكشف عن دوافع التحرّش الجماعي، بوصفه ممارسةً للعنف والعدوانية، وهذا دور غائب للمؤسسات البحثية والمتخصّصين، إن مواجهة المشكلة بتقديم المعتدين للتحقيق في كل مرة لا ينهى الظاهرة، على الرغم من أهمية الردع والمحاسبة، ووجود بنية قانونية تعاقب الفاعلين على الجريمة. ومع الأخذ في الاعتبار جهود منظمات المجتمع المدني في مواجهة الظاهرة، وتأثير الرأي العام في دفع مؤسسات التحقيق والعدالة إلى القيام بدورها، إلا أن ذلك ليس كافيا للمواجهة، فالردع والعقاب، في حال وصول المعتدين إلى ساحات المحاكم، لم يلغ الظاهرة، وكذلك تتبع أجهزة الشرطة الحوادث المنشورة على "فيسبوك"، والتعاطي مع بعضها، كما حدث في محافظات أسيوط والدقهلية والقاهرة والإسكندرية، لا ينهي الظاهرة. كما أن المنظمات النسوية والبحثية، مع التقدير لجهودها، لم تقدّم دراسات جادة عن ظاهرة التحرّش الجماعي، لمحاولة فهمها في سياق التغيرات التي طرأت على المجتمع، بل اكتفى بعضُها بتفسير التحرّش الجماعي بمنظور سياسوي ضيق، اتخذ مراحل الصراع السياسي في أثناء الثورة أداة للتحليل، فتم تعميم منظور قاصر شديد العمومية، بوصف أن التحرش الجماعي أداة لإبعاد النساء عن المجال العام.
تقع معظم حالات التحرّش الجماعي خارج إطار الممارسة السياسية، وليست لها دوافع سياسية مباشرة، لكنها ليست منقطعة الصلة عن مسألة توفر الأمان في الفضاء العام، وبالتالي البحث عن العوامل المشتركة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، فيما يخص انتهاك الأجساد عموما والنساء خصوصا يمكن أن يكون إطارا أكثر موضوعية، فبحث علاقات القوة في المجتمع ككل، وفي البنية الاقتصادية والطبقية والسياسية إطار للتحليل أشمل من اجتزاء وقائع الصراع السياسي بين الحكم ومعارضيه، أو بين التيارات السياسية، أداة للتحليل والتفسير لحوادث التحرّش الجماعي.
النساء وغيرهن من الفئات يمكن أن يتم توظيفهن في سياق الحشد السياسي مع أو ضد، كانت تحشد الثورة والثورة المضادّة قطاعاتٍ من النساء، ويتم الاحتفاء بالنساء في الحالتين، فصوت النساء مرة ثورة من وجهة نظر الثوريين، وصوت النساء داعم لوجود النظام الحالي ويدعم الاستقرار والأمن الذي يراه الثوريون ثورة مضادّة، بينما كان الإسلاميون يحشدون نساءهم في كل أنشطتهم، وكانوا بالطبع ضد وجود النساء اللواتي رفعن ضدهم بطاقات حمراء، وعارضن حكمهم.
لا يريد هذا التوضيح إلغاء أثر جرائم التحرّش على وجود النساء والفتيات وحركتهن في الميادين 
والشوارع، أو يتجاهل الرهبة التي تحدثها على فاعليه سياسيا، ولكنه يحاول تلمس جوانب مختلفة من المشهد في مصر، ويرفض التفسيرات المسبقة والسهلة والجاهزة، والتي تأخذ جانبا من المشهد لأغراض بعينها، وربما في إطار معالجةٍ متسرعة، فأغلب حالات التحرّش تدور خارج السياق السياسي، وكما أن أنشطة النساء في المجال العام محل صراع، يحشد كل تيار جمهورَه من النساء والرجال على حد سواء، ومخالفة التحليل الوقائع الميدانية وغيابها في دوامة التوهم تعد خداعا أو صورا متخيلة، كتصور وضعية النساء في المجال السياسي بوصفها آمنة دوما في الأجواء الثورية أو حلقات العمل السياسي. ليس كل الثوار نبلاء بالطبع، وليس كل الفقراء، محدودي التعليم من سكان الأطراف أو فقراء المدينة، متحرّشين بالضرورة، وكلاهما أبناء للمجتمع ومشكلاته. لذا لا تصح هنا التعميمات والمقولات العامة لفهم حالة التحرّش الجماعي مصريا (والتي توجد في بلدان أخرى). ولا بد من تحليلٍ يستند إلى مشاهدات وأبحاث ميدانية، وبحث عميق لتأثيرات التغيرات التي طرأت على المجتمع، وتأثيرها في أفكار الأفراد ودوافعهم واتجاهاتهم تجاه النساء. وتدلّ المشاهدات والشهادات المتعلقة بالتحرّش الجماعي على أنه يحمل مظاهر إثبات القوة والسلطة، وإخافة الضحية وحصارها والقدرة على إخضاعها، وإظهار الأذعان. يري المتحرّشون في جريمتهم لعبة عنيفة ومثيرة، يثبتون ذواتهم تجاه آخر مختلف وضعيف، يتم حصاره بجموعٍ تمارس ضده العنف والتشهير والقمع، لأنه مختلف عنها. البحث عن أسباب أن ينظر المتحرّشون إلى النساء لعبة وإلى التحرّش هواية، وكيف يتم إنتاج عمليات تبرير الانتهاك وإدانة الضحايا أمرا مهما، كذلك بحث غياب عمليات التضامن، في بعض حالات التحرّش الجماعي، وعلاقتها بالتغيرات التي حدثت في المدن، ومستوى العنف ضد النساء أيضا مهم، خصوصا أن أغلب حالات التحرّش الجماعي تتم في المدن الكبرى وعواصم المحافظات.
كما أن وضعية المجتمعات المحلية التي تنشأ فيها مجموعات التحرّش الجماعي مهمة، وقد كشفت وقائع أن مجموعات من المتحرّشين بشكل جماعي ينتمون إلى أطراف المدن، ويحاولون فرض هيمنتهم وسيطرتهم على الفئات الأضعف أو المختلفين عنهم في أثناء مواسم الأعياد، سواء عبر التحرّش أو التنمر على فتيان وشبان آخرين، ومع التسليم أن التحرّش الجماعي يحمل سيكولوجية الهياج وعقلية القطيع غير المنطقية والعقلانية، إلا أن ذلك تفسير قاصرٌ أيضا.
يحتاج المصرّون إلى وقفةٍ لفهم العدوانية المتزايدة، سواء ضد النفس أو ضد الآخرين، وليست
 حوادث التحرّش استثناءً عن التعاطي معها بوصفها جزءا من العنف المتزايد، هذا العنف تمارسه السلطة السياسية مع المختلفين معها، وتمارسه المؤسسات ضد العاملين فيها بأشكالٍ متنوعةٍ من القهرين، الاقتصادي والنفسي، تهميش قيمة الإنسان وحقه فى الأمن والاستقلالية وحرية الحركة لصالح بنى السلطة السياسية والاجتماعية جزء من الأزمة، حوادث التعذيب والعدوانية والقتل داخل الأسر المصرية ضد الأطفال والنساء ليست منفصلة عن حالات التخويف الذي يُمارس ضد الفتيات من المتحرّشين، فالإنسان الذي يعيش في ظروفٍ بائسةٍ لا تحترم كرامته، ولا احتياجاته، ولا حريته، يكون عرضةً لممارسة رد فعل على ظروفه ضد آخرين، ولا يستثني من أسباب التحرّش الجماعي ما طرأ على الأسر المصرية وقواعد الضبط والتنشئة من تغيرات وغياب الأدوار، نتاج أزمة اقتصادية عميقة متشابكة مع أزمةٍ سياسيةٍ تنتهك فيها بنى السلطة الأجساد والكرامة.
مصر في حاجة إلى مشروع إصلاح اجتماعي بجانب التغير السياسي، وهو جانبٌ تم إغفاله في إطار مشروعات التغير ليس مصريا وحسب، ولكنه عربي أيضا، مشروع يعتمد على قراءة أمراض المجتمع ومشكلاته، وبحث أسبابه، ثم الانطلاق إلى علاجها بصدق، لا بشعارات ومقولات عامة.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".