الثورة والاستعصاء الثوري في سورية (2-2)

الثورة والاستعصاء الثوري في سورية (2-2)

22 ابريل 2014

لاجئون سوريون في الزعتري يهتفون للحرية مارس 2014 (Getty)

+ الخط -
هل هناك بديل أمام الثورة السورية عن مسار الحل السياسي؟ هل يمكن أن تتطور بما يجعلها قادرة على الانتصار؟ في الظرف الحالي، لا يبدو أن هناك بديلاً، فنجد التالي:
1) بات وضع الشعب السوري صعباً للغاية، نتيجة الدمار والقتل، لكن، أيضاً التهجير وافتقاد فرص العمل، وبالتالي إمكانية العيش، بعد انهيار الوضع الاقتصادي. ومن ثم، الوضع الأمني الضاغط، والذي يؤثر، بدوره، على الوضع الاقتصادي. واحتمالات القتل أو الاعتقال أو الإهانة. وظروف اللاجئين مؤسية، واحتمالات تهجير من تبقوا في البلاد يظل قائماً. ذلك كله مع الشعور أن الثورة السورية من دون أفق، لأنها تاهت عن أهدافها، وأن القوى الأصولية هي التي باتت تسيطر، أو تسعى إلى السيطرة، وبالتالي، وجود بديل أسوأ.

2) المناطق التي باتت خارج سيطرة السلطة صارت في فوضى، و"داعش" تتصرف كأنها السلطة الحقيقية، في وضع يدفع إلى "الكفر" بالثورة. وعنصر التخريب واضحٌ هنا، وبات يحتاج علاجاً حقيقياً، لن يكون ممكناً في ظل الصراع الراهن، لأنه يحتاج إلى "توافق ما"، يفرض مواجهة هذه القوى، ويلغي دور محركيها، وينهي حاجة المستفيدين منها. وأيضاً، سنلمس زيادة ميل الأسلمة، والتفرّد في طرح بديل محدَّد، غير مقبول من قطاعات شعبية مهمة.
3) وكما أشرنا، ليس من إمكانية للتسلح، أو للتخلي عن سياسة شراء الذمم، وتفكيك الكتائب المسلحة، وتدعيم أسلمتها من قوى "خارجية". وليس من خبرة تسمح بإعادة تأسيس الكتائب المسلحة، أو توحيدها.
لهذا، يجب أن يكون واضحاً أن الحسم العسكري مستحيل الآن، وليس من إمكانيات واقعيةٍ له، نتيجة غياب التسليح أو تعميم التشرذم، أو لأن إسقاط النظام يحتاج إلى استراتيجية، ليست عسكرية فقط، لأن العسكرة وحدها سوف تبقي الصراع سنوات من دون طائل، ومع شرذمة سورية وتفكيكها وتدميرها. وهذه أصلاً مشكلة العسكرة منذ البدء، وهو خطأ الشباب الذي اندفع معتقداً أن السلاح هو ما سيجعله قادر على أن يحسم الصراع بقوة إرادته (مع معرفتنا بالظروف التي فرضتها السلطة لدفع الشباب نحو التسلح)، ولكن، أيضاً التدخلات من أطراف في المعارضة (الإخوان المسلمون) ارادت أن تكرر تجربة سنة 1980الفاشلة حتماً، معتمدةً على أن يكون التسلح مدخلاً تحضيرياً للتدخل الخارجي. أو نتيجة العمل إلى تخريب الثورة من دول إقليمية خصوصاً. لهذا، كانت "سياسة التحرير" كارثة بكل المقاييس، وساعدت السلطة على أن تبقى متماسكة، وأن تظهر جبروتها باستخدام أسلحتها المتفوقة، والنتيجة تعميم التدمير الشامل، من دون الوصول إلى كسر السلطة وإسقاطها.

مراهنات وبحث عن حلول
ذلك كله واضح للشعب السوري، واضحٌ عبر الحس السليم الذي يمتلكه، وعبر ملاحظاته ومشاهداته، على الرغم من أن الشعب لم يتراجع عن هدفه: إسقاط النظام، ولن يقبل حلاً لا يودي ببشار الأسد وآل الأسد ومخلوف وشاليش وكل الزبانية. وهذه هي المراهنة التي كانت على عملية "جنيف2"، أي هل ستنهي سلطة الأسد، أو أن المطلوب تحقيق عملية انتقال تحت سيطرته؟ هذه الأخيرة ستكون لعباً على الزمن، وعجزاً عن تحقيق "استقرار"، عبر قبول الشعب بالحل. ما يوصل إلى حل (وإنْ كان مؤقتاً لأنه لن يحل مجمل المشكلات التي قامت الثورة على أساسها) هو التخلص من سلطة آل الأسد والزبانية. وفتح أفق لمرحلةٍ انتقاليةٍ، ترسي أسس دولة مدنية ديمقراطية. وتوجد حلاً سريعاً لمشكلات الشعب الذي تدمرت بيوته، وأشغاله، وبات مهجراً (إعادة الإعمار الفعلية)، وحلاً للوضع المعيشي عموماً.
في كل الأحوال، يحتاج واقع الثورة السورية إلى إعادة بناء، بتحديد الأهداف التي يطرحها إسقاط النظام، أو بتحديد الخطاب المعبّر عنها، أو بتحديد وضع العسكرة والنشاط الشعبي فيها. لأنه في كل الأحوال، الثورة سوف تستمر، لا سيما وأن "جنيف 2" لم يحقق حلاً، ولو "نزع سلاح" و"منع استخدام سلاح"، أو وقف الصراع المسلح، وإنهاء وحشية السلطة، وكان من شأن هذا، في غضونه، أن يتحوّل صراع الشعب إلى "السلمية" من جديد، أي إلى كل أشكال الاحتجاج، خصوصاً وأن الحل الذي كان مأمولاً في "جنيف" يقوم على تأسيس شكل ما من الديمقراطية والحريات، يتضمن حرية الصحافة وتأسيس الأحزاب والنقابات، وحق الإضراب والاحتجاج والتظاهر. والنضال "السلمي" (قياساً بكل الوحشية التي مورست والتحوّل إلى الصراع المسلح) كان سيصير أساساً لكل الصراع من أجل تحقيق مطالب الطبقات الشعبية، أي مطالب العمل والأجر والتعليم والصحة والسكن. وهذه تفرض، بدورها، تغيير كلية النمط الاقتصادي لمصلحة نمط منتج، من أجل استيعاب العمالة والمرونة في رفع الأجور، وتوفير مجانية التعليم والصحة، وتطوير البنية التحتية. ويفرض هذا الأمر تأسيس النقابات والاتحادات والمجالس الشعبية، وهيئات الدفاع عن الشعب. وأيضاً تأسيس الأحزاب والتحالفات التي تهدف إلى تحقيق ذلك. هنا، يكون الفعل سياسياً طبقياً بامتياز، ومن أجل تحقيق مطالب الشعب. ولمقاومة السيطرة الاقتصادية التي ستفرضها الدولة الرابحة (روسيا)، وإعادة الإعمار التي ستوكل لشركات أجنبية. ما سيميّز الوضع هنا هو أن السلطة ستكون "ضعيفة"، بعد أن تحطمت "بنيتها الصلبة"، وسوف تميل للتفكك، بعد فقدان "البنية الصلبة" الضابطة لكلية الوضع. في المقابل ستكون أمام الشعب فسحة كبيرة لكي يعيد بناء مطالبه، وينظّم قواه، ليستعد لصراع حقيقي.
إعادة بناء الثورة
ولكي لا يضيع الوقت، لا بد من إعادة بناء الثورة، وهذا يقتضي التالي:
أولاً: الهدف الأساسي هو إسقاط النظام، وبناء دولة علمانية ديمقراطية، وتغيير النمط الاقتصادي لمصلحة نمط منتج. وبالتالي، حل مشكلات الطبقات الشعبية (البطالة والأجر المتدني وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية).

ثانياً: يجب قطع كل مراهنة على "دور خارجي"، يمكن أن يدعم الثورة، فالكل ضد الثورة، ولا يريد سوى تدمير سورية. الثورة يجب أن تنتصر بقواها الذاتية، وهي قادرة على ذلك، نتيجة قوة الشعب، لكن الشعب المنظم، وواضح الرؤية. وهنا تأتي أهمية الفعل السياسي.
ثالثاً: هذا يقتضي إعادة تأسيس العلاقة مع كل مناطق سورية، وإزالة التخوفات والتخويفات التي جعلت "الأقليات" مترددة، أو داعمة للسلطة. فلا إمكانية لإسقاط النظام من دون خلخلة القاعدة الاجتماعية التي يأخذ منها شبيحته وبنيته الصلبة، ومن دون دمجها في الثورة، خصوصاً وأنها مفقرة كمعظم السوريين، ومهمشة ومسحوقة كذلك. وهذا يفترض إدانة كل طائفي، وكشف اللثام عن كل القوى الأصولية الطائفية، ومواجهة محاولة بعض القوى فرض سلطة أصولية. والشغل على إيجاد مخارج لمشاركة القاعدة التي تريد السلطة إبقائها ملحقة بها.
رابعاً: لا بد من التأكيد على أن الأفق العسكري فاشل، فليس من دعمٍ "خارجي"، وليس من تسليحٍ كافٍ، يمكن أن يتوفّر، ولقد انحكم العمل العسكري للتنازع المناطقي، وللمنطق الدفاعي، وأيضاً، حين قام على التقدّم اتخذ شكل "التحرير"، وهو شكل كان يعطي السلطة كل الفرص لتصعيد التدمير والقتل، نتيجة تفوقها الحاسم في قوة النيران. لقد افتقد الرؤية الاستراتيجية، وتحوّل إلى صراع جيش ضد جيش، في وضع غير متكافئ، وتكرّس بديلاً للنشاط الشعبي، وعلى الضد منه، ما أفقده البيئة التي تحميه، حيث تربك قوى السلطة وتشلها.
خامساً: لم "تتحرر" المناطق نتيجة قوة العمل العسكري، بل نتيجة قوة الحراك الشعبي الذي توسّع في كل سورية، وانتقل إلى احتقان متصاعد لدى معظم قطاعات الجيش التي باتت خارج معادلة الصراع، على ضوء ذلك. ولهذا، اضطرت السلطة إلى سحب قواتها من المناطق التي باتت تسمى محررة (على الرغم من وجود مناطق جرى تحريرها بالفعل بعد ذلك). لهذا، لا بد من إعادة "الزخم الشعبي"، على الرغم مما تعرضت له المناطق من تهجير، وعلى الرغم من تحوّل ناشطين كثيرين إلى العمل المسلح، أو إلى العمل الإغاثي أو الإعلامي. لا بد من أن تتأسس سلطات شعبية في المناطق التي باتت خارج سيطرة السلطة، ولا بد من محاولة تحريك المناطق التي لم تتحرك بعد، نتيجة جملة مصالح، لكن، أيضاً، مشكلات في سياسات الثورة، وبعض أطراف المعارضة، خصوصاً التي ربطت إسقاط النظام بالتدخل الخارجي، فأخذت موقفاً مضاداً لـ "الأقليات" (والعلويين خصوصاً). فالمطلوب إعادة بناء العلاقة بين العمل المسلح الذي بات واقعاً والنشاط الشعبي الذي تلاشى أو يكاد. فالثورة لن تتطور وتنتصر، وهي تعاني من واقعها الصعب، وتشهد التفكك والتفتت والفوضى. وتعيش انسداد الأفق أمام العمل المسلح، نتيجة "السياسة العسكرية" المتبعة، والتي تنم عن عدم فهم للعمل المسلح وللثورات معاً.
 
سادساً: طبعاً لا بد من بلورة التعبير السياسي عن ذلك كله، وهنا، يجب الانطلاق من أن كل أطراف المعارضة ليست جديرة بأن تمثل الثورة، بله أن تقودها، وأنها يجب أن تكون خارج المعادلة. بالتالي، لا بد من تأسيس التعبير السياسي الذي يمثل الثورة حقيقة، من المجموعات التي نشأت في خضمها، ومن كل الفاعلين السياسيين الملتصقين حقيقة بالثورة، بعيداً عن كل القوى السياسية القائمة.
هذا يفترض إعادة بناء الثورة السورية، فأولاً، يجب تحقيق توازن بين النشاط الشعبي والعمل المسلح، كيف؟ هذا ما يحتاج إلى دراسة جادة لواقع الثورة، ولمشكلاتها وأيضاً للظروف الواقعية التي نتجت عن صراع دموي نحو عامين ونصف، ونتيجة التدخلات الإمبريالية والإقليمية التي كانت تخرّب على الثورة. وإعادة بناء الثورة ضرورة في كل الأحوال، فالصراع مستمر.