الجيش، الإسلام السياسي، الإرهاب

الجيش، الإسلام السياسي، الإرهاب

25 ابريل 2019
+ الخط -
منذ اندلاع الموجة الثانية من الثورات العربية في كل من السودان والجزائر، اتجه كثيرون من أصحاب الرأي في الإعلامين، المكتوب والمرئي، وفي وسائط التواصل الاجتماعي، إلى ترسيخ خياراتٍ ثلاثة، باعتبار الممكنات المتاحة اليوم، في دوائر الصراع السياسي داخل مجتمعاتنا. لن يتجاوز الحراك الثوري المشتعل في البلدان المذكورة، الآفاق التي ترسمها القِوَى التي سطَّرنا أسماءها عنوانا لهذا المقال، فنحن لا نجد في كثير من مقالات الرأي عناية كافية، لا بمضمون الحراك وشعاراته، كما لا نجد اهتماماً بصور التدافُع التي يمكن أن تحصل في قلبه أو تلتحق به.. ويبدو أننا أصبحنا، في النهاية، أمام مجموعة من الأحكام القبلية والعامة، عن صُور الحراك الثوري العربي في موجته الثانية.
يمكن أن نلاحظ في الأحكام والمواقف المذكورة نوعاً من الإغفال المقصود لدوافع الحراك، ولطبيعة القِوَى التي تساهم في رسم جوانب من التطلُّعات، المحدّدة لسمات وآفاق الأفعال الاحتجاجية، القائمة والمتواصلة في شوارع وميادين مدن كثيرة في السودان والجزائر. وإذا كان مؤكّدا أن تظاهرات الموجة الثانية لا تختلف كثيراً عن الاحتجاجات التي قام بها الحراك الاجتماعي سنة 2011، في كل من تونس ومصر والمغرب والبحرين والأردن وسورية واليمن، فإن الموجة الثانية، على الرغم من عفوية كثير من تحركاتها، تحاول الاستفادة من كثير من نواقص ما حصل في المجتمعات التي ذكرنا وثغراته.
تندرج الأفعال الاحتجاجية الجديدة في إطار مشروع الإصلاح السياسي الديمقراطي، وهي 
تستوعب وتترجم، بمواقفها واستماتة المشاركين فيها، إرادة سياسية مناهِضة للخيارات السياسية القائمة في أغلبية المجتمعات العربية. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا نربط التغيير المطلوب بالثلاثية التي تَحْصُره في الجيش والإسلام السياسي وإسلام التطرّف الجهادي؟ ومما يزيد الأمر غموضاً غياب تصوُّرات واضحة، أو متفق عليها في موضوع الجيش، وموضوعات التوظيف السياسي والجهادي للإسلام، بحكم اختلاف أوضاع الجيش وأنماط علاقته بالنظام في البلدين المذكورين، وكذا اختلاف علاقة النظامين بالإسلام السياسي وتنظيماته.
ليست البدائل التي يتحدث الجميع عنها اليوم خيارات قدرية. وبداية، نحن أمام خيارات مناقضة لروح الحراك المشتعل، وشعاراته المرفوعة والمعلنة، فكيف توصلنا الشعارات المُنَدِّدَة بالأنظمة السياسية في المجتمعين المذكورين إلى خيارات الجيش والإسلام السياسي أو إسلام التطرّف؟ وإذا كان بعضهم يمنح مؤسسة الجيش امتياز التدبير الانتقالي لمرحلة ما بعد الحراك، بغرض المحافظة على أوضاع ومواقف ومعاهدات وعقود، متوخياً من ذلك المحافظة على نوع من الاستمرارية، إلا أننا نرى أن هذا الموقف لا يعير أدنى اهتمام لمطالب الحراك الشعبي المتواصلة، وهو يسكت عن الأدوار التي مارسها الجيش، ويمارسها الإسلام السياسي في سَحْق مختلف القِوى المدنية والحداثية في مجتمعاتنا، وهي القِوَى التي نتصوَّر أنها تُشَكِّل البديل الأكثر تاريخيةً لِقِوَى الفساد والاستبداد، ولمختلف القِوَى السياسية الأخرى التي تُتَاجِر بالدين والأخلاق، وتبشّر بالطهرانية في المجال العام، متناسيةً مختلف مكاسب الموروث الإنساني في الفكر الحديث والمعاصر، ومتخلية، في الوقت نفسه، عن إرث الفكر الإصلاحي العربي الذي تبلور في فكر النهضة العربية، خلال القرنين الماضيين.
تكشف ثلاثية الخيارات التي تساهم في تغذية مواقف وتحليلات مقالات رأي كثيرة في الإعلام 
العربي في إخفاء الدور الذي مارسته الدولة العربية المُسْتَبِدَّة خلال العقود التي تَلَتْ استقلال أغلب هذه الدول، حيث تَمَّت محاصرة القِوَى السياسية الحيَّة، ومختلف التنظيمات المدنية، ما يفيد بأن الدولة العربية الناشئة لم تعمل على تهييء الشروط المناسبة لبناء بدائل سياسية تاريخية قادرة على التناوب في تدبير السياسات العامة، في أفق الخيارات التي بلورتها الجهود والتيارات الإصلاح العربية، وكذا التصوُّرات السياسية الحديثة والمعاصرة.
تجري محاصرة الحراك الثوري في الجزائر والسودان بالقيادات العسكرية التي يُفْتَرَض أن تكون تابعة للدُّول، حيث لا يمكن للعسكر دائماً أن يصنع الدول، ولا يمكنه دائماً أن يساهم في إنجاح الانتقال الديمقراطي. الجيش يُسْتَعْمَل في الراهن العربي للتخويف من التدخل الأجنبي، وينشر ألْوِيتَه باسم المحافظة على الاستقرار ومواجهة الإرهاب، أو أنه، في أوجُه أخرى، يُعَدُّ فَزَّاعَة مناهِضة للإسلام السياسي، أو حاكمة باسمه كما كان يفعل عمر البشير في السودان. وبَدَل أن تساهم أربعة أشهر من الاحتجاجات في السودان في عمليات التمهيد لحصول انتقال ديمقراطي، خصوصا أن في قلبها قِوَى الحرية والتغيير التي تجمع المهنيين السودانيين، من أطباء ومعلمين وشبكة الصحافيين وتحالف المحامين، وهم جزء مهم من قِوَى المجتمع السياسي والمدني، إضافة إلى أنهم يعدّون جزءاً من القِوَى السياسية المعارضة والمساهمة في إعلان الحرية والتغيير. فلماذا يضع الجيش في السودان مكان البشير رجلاً من رجالاته وجنرالاً يشبهه؟ ولماذا يُواصل الجيش في الجزائر وضع يده على الحراك، على الرغم من عزلته ومطالبة المحتجين برحيله؟
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".