أطفال "اليورانيوم" عندما يكبرون

أطفال "اليورانيوم" عندما يكبرون

26 نوفمبر 2014

أطفال نازحون في إحدى ضواحي بغداد (7فبراير/2008/أ.ف.ب)

+ الخط -

يسأل طفل في الفلوجة أمه، عمّن أحرق وجهه وشوه جسده، تجيبه أمه بمرارة: إنهم الأميركيون. يرد الطفل بعفوية: أين أجدهم كي أنتقم منهم؟ تجيب أمه: ستجدهم عندما تكبر. تتكرر هذه الواقعة كل يوم، حسبما يقول الفلوجيون. هي ليست واقعة عابرة، إنها إحدى وقائع حرب الأميركيين على أطفال العراق التي شرعوا فيها، منذ أفتت مادلين أولبرايت، قبل عشرين عاماً، بأن قتل خمسمئة ألف طفل عراقي لا يساوي شيئاً أمام هدف الوصول إلى بغداد، وبارك فتواها تجار سياسة عراقيون، وضعتهم أميركا في السلطة، عندما تحقق لها هدف الوصول، لكن السؤال ظل مشرعاً: ألم يتجاوز العدد هذا الرقم، والحرب الأميركية على أطفال العراق ما تزال تتناسل فصولاً؟
لماذا أطفال العراق بالذات؟ لسنا عنصريين، لكننا مع الحكيم العربي، وقد أنستنا ذاكرتنا المعطوبة اسمه، الذي أجاب على السؤال في حينه، إنهم يخشونهم، لأنهم عندما يكبرون سيتحولون إلى "كتلة علم تمشي على قدمين"، هي اللعنة التي سوف تلاحق الأميركيين، ومن تحالف معهم، كما ستلاحق تابعيهم المحليين الذين شاركوهم "متعة" قتل الأطفال، وحرق وجوههم، وتشويه أجسادهم البريئة.
تكتب الدكتورة سميرة العاني (طبيبة أطفال في مستشفى الفلوجة) أنها كلما أجرت عملية ولادة لم يكن أهل الوليد يسألونها كما كانوا في السابق: هل الوليد ذكر أم أنثى، إنما هل الوليد كامل الخلقة، وهل هو بصحة جيدة؟ فقد اعتاد الفلوجيون أن يشهدوا، ومنذ أن وطأ الأميركيون أرض بلادهم، مشاهد سوداء من هذه التراجيديا المروعة، نصف أبنائهم يولدون مصابين بعيوب وتشوهات خلقية، ومعدل المصابين بالسرطان يفوق معدل من أصيبوا في هيروشيما وناغازاكي اللتين قصفتهما أميركا بالقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية. ليست الفلوجة وحدها، ففي جاراتها الجنوبيات 40% من حالات الحمل تنتهي بالإجهاض.
إنه اليورانيوم المنضب الذي صبته الولايات المتحدة حمماً على رؤوس العراقيين. وتقول التقارير الدولية الموثقة إن كمية ما قذف من اليورانيوم على أهداف مدنية في مناطق مأهولة بالسكان، في مدن وسط العراق وجنوبه، تجاوز 440 ألف كيلوجراماً، تمتد إشعاعاتها إلى مساحات شاسعة، تصل إلى آلاف الكيلومترات، وتحتاج، برأي الخبراء، إلى أربعة مليارات ونصف المليار من الأعوام، لكي تفقد قدرتها على الإشعاع، وقد اكتشف العراقيون إلى حد عام 2006 نحو 400 موقع ملوث، لكن الحكام المنصبين من الاحتلال أوقفوا البحث، بطلب من واشنطن، وصمتوا عن الجريمة، لأن المسؤولية عنها تطالهم هم أيضاً. انتبه العالم إلى فداحة الجريمة، وإن متأخراً، ففي عام 2012 صوتت 143 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار غير ملزم، يقضي بالمساعدة على تطهير العراق من تأثير اليورانيوم المنضب، لكن أميركا رفضت الاعتراف بجريمتها، وامتنعت عن تقديم البيانات المطلوبة التي تساعد على تحديد المناطق التي قذفت عليها حمم اليورانيوم، وصوتت ضد القرار، مع ثلاث دول أخرى، هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، والعالم مايزال يسعى إلى استصدار قرار جديد عن الجمعية العامة، في دورتها المقبلة، في ديسمبر/ كانون أول المقبل، وثمة حملة عالمية، يقودها ناشطون من مختلف الأنحاء، للضغط على مرتكبي الجريمة للاعتراف، والاعتذار، والمساعدة على تطهير العراق من آثار الجريمة.

يقول بن غريفين، وهو محارب بريطاني خدم في العراق، وأحد كبار الناشطين في هذه الحملة، وقد شهد بعض فصول التراجيديا بأم عينيه، في خطاب لافت، إلى الرأي العام العالمي: "أشعر بغضب عارم، تركنا للعراقيين إرثاً من المواد السامة، يستمر تأثيرها على مدى أجيال، إنني وجنوداً عديدين آخرين (شاركوا في حرب العراق) لسنا سعداء، مع حقيقة جعلنا متواطئين مع هذه الأفعال". وينبه بن غريفين ورفاقه إلى "ضرورة تنظيف مواقع التلوث، والكلفة لن تكون أكثر من 30 إلى 45 مليون دولار، وهي قطرة في بحر مما تصرفه الولايات المتحدة على حروبها".
لن ننتظر، نحن العراقيين، من حكامنا أن يدينوا جريمة صب اليورانيوم المنضب على رؤوس أطفال بلادهم، كما لا نتوقع أن ترتفع أصواتهم للمطالبة بإحالة المسؤولين عنها إلى محاكم دولية، إنما نريد منهم أن يطالبوا الأميركيين، ولو مرة واحدة، باعتذار خجول عما ارتكبوه!
ونذكّرهم بأن أطفال العراق عندما يكبرون لن يصفحوا عن قاتليهم، ولن يغفروا لمشوهي أجسادهم فعلتهم تلك، ولسوف يصرخون في وجوههم، كما صرخ بابلو نيرودا: أيها القتلة، من كل جريمة ارتكبتموها تولد رصاصات سوف تستقر في قلوبكم يوماً.

دلالات

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"