سقوط الضمير في غزة

سقوط الضمير في غزة

15 يوليو 2014

استمرار القصف الإسرائيلي على غزة (يوليو/2014/فرانس برس)

+ الخط -

بدأت بكتابة المقال عن سقوط النظام العربي في غزة. لكن، تدراكت الأمر، إذ أن النظام العربي الرسمي سقط مراراً، على أبواب فلسطين والعراق، ومع كل آهة وجع لفقير ولمظلوم أو صرخة ضحية عنف احتلال أو صراع قوى ونفوذ، تحت مسميات سياسية، أو طائفية، أو دينية.
فضيحة غزة في استمرار مجزرة ضد شعبٍ محاصرٍ، يأتيه الموت من الأرض والسماء والبحر، لا تتلخص بالصمت العربي، أو حتى بالتخاذل، بل في حقيقة أن مصالح الحكومات والأنظمة تستمد شرعيتها من رضى السيد الأميركي، ومن علاقتها المعلنة، وغير المعلنة، بالكيان الصهيوني؛ فالطاعة أغلى من دماء شعب أو شعوب، فاستباحة الحياة غدت مسلسلاً يومياً، يستطيع الحكام مشاهدته، وفقاً للمزاج، يغيرون القنوات حسب اختيارهم، فلا عزاء لأمٍّ ثكلى، وطفل مرعوب.

حتى كلمات التنديد باتت باهتة، بل ومخزية، تحمل في طياتها إدانة الضحية، فلا يخلو بيان من اجترار الالتزام بعملية سلامٍ موهوم، وكأن الفلسطيني يتحمل وزر فشل "سلام" غير موجود، أو ترديد لتعبيرات أميركية الصنع، كما هي أسلحة الدمار نفسها، عن "ضرورة وقف دورة العنف"، وكأن الفلسطيني أصبح المحتل والمغتصب؛ تعبيرات مبتذلة في مساواة الضحية بالجلاد، في تهرب جبان من مسؤولية سياسية، بل وأخلاقية.

أصبح النظام العربي لا يختلف عن النظام الإسرائيلي في تمنياته، على الفلسطيني الصمت والخنوع، لأن في المقاومة، وبأي شكل، إزعاج لهذا النظام، فليقبل الفلسطيني الأمر الواقع، ويتحمل ويسكت، ويأخذ الفُتات الذي يعرضه من يملك السلاح، ويسيطر على الأرض ويصادرها، ويشرد، بل ويقتل، أهلها.

وسلطة فلسطينية "من دون سلطة" هي نفسها محاصرة، ومهددة، لكنها ربطت بقاءها بقدرتها على السيطرة على شعبٍ محصور ومحاصر، فثورة الشعب الفلسطيني تنهي موجبات وجودها، تحت ذريعة إثبات حسن سلوك، وكأن حق تقرير المصير مشروط بانصياعٍ تام لاحتلال مستمر وممتد، وكأن على الشعوب إثبات أنها تستحق الحياة، أو حتى قليلاً منها، بالتذلل إلى مستعمرها، كما يتذلل العبد إلى السيد.

ذلك لأن النظام العربي مكبل، وأصبح أكثر تقييداً، بعد الثورات العربية، فلم يكن في استطاعته منع تهاويه، من دون رجوع إلى السيد الأميركي الذي أعلن شروطه الأزلية، لدعم نظام وسحبه عن آخر: الالتزام بحماية عدو ممعن في عدائه واستكباره ووحشيته، المشاركة في "حرب على الإرهاب" عنواناً للتدخل الاستعماري، وذبح لحقوق إنسان عربي، وفي إباحة الاقتصاد الوطني، إلى وصفات صندوق نقد دولي، تضمن الاستعباد والتبعية.

نظام احتفل، على مر السنوات، بشروط تأهيل تبعيته في مؤتمرات إقليمية ودولية: تدار فيها مصالح الدول الكبرى وأثرياء العالم، ليس على حساب الفقراء، بل على حساب الأثرياء الأقل ثراءً، في دول نامية منسية، وتعقد على هامشها صفقات الدعس على حقوق البشر، فيما يتجول العربي والفلسطيني مزهواً بالاحتكاك بالقادة والمشاهير، وهو يعرف، تماماً، أن وجوده تغطية على قبوله الضمني بإحقاق شراكةٍ، اقتصاديةٍ وسياسيةٍ، مع نجم الحفل الإسرائيلي الذي يلمع مختالاً باختراقٍ ناعم لعالم عربي نائم.

من المحيط إلى الخليج، حلت المصالح الاقتصادية مع من يريد تدمير العروبة مكان حلم الوحدة العربية، وفي مصر والأردن، بلدا مواجهة غير مواجِهة، أصبحت مشاركة الثروات الوطنية مع من سرق الثروات أصلاً مدخلاً لاستقرار النظام، ملكياً كان أو منتخباً، فالغاز المصري متاح ومياه البحر الأحمر والميت ومياه نهر هو قلب الأردن وفلسطين، أيضاً، متاحة، فالذي سرق مياه فلسطين أصلاً، لا حاجة له أن يسرق خفية، أو بقوة السلاح، بل في معاهداتٍ، اختلست بموافقة من اختلسَ الإرادة الشعبية.

فليبكِ الشعب العربي ما شاء في "فيس بوك" و"تويتر" على محمد أبو خضير، وكل طفل تناثرت أشلاؤه تحت شظايا صاروخ، فما الفرق ما دامت الجبهات هادئة ومستكينة، فالأمن هو أمن إسرائيل وإسرائيل هي أمن الأنظمة وضمانتها.

لن تهتم هذه الأنظمة بعويل أمهات غزة، فلا عيون لقلوبها، ولا شيء غير المقاومة يتعبها، من نزولٍ إلى شوارع العواصم إلى فضحه تواطؤها إلى دعم مقاومةٍ تجبر المحتل على دفع ثمن احتلاله، لن نوقظ ضمير النظام العربي الميت، لكن، على الأقل، نحيي المقاومة فينا.