هنا باريس.. انطباعات وأجواء

هنا باريس.. انطباعات وأجواء

19 يناير 2015

عناصر من الأمن الفرنسي في أحد أحياء باريس (13يناير/2015/Getty)

+ الخط -

من مطار أورلي في اتجاه جادة كرونيل قرب برج "تور إيفيل"، تجاذبت حديثاً مع سائق سيارة الأجرة من أصل سنغالي، كان حديثا عن العمليات الإرهابية التي طالت صحيفة شارلي إيبدو والمتجر اليهودي، وما أحدثته من احتقانات وتوجسات وشكوك وحالات نفسية مضطربة لدى شرائح واسعة من الفرنسيين. كانت ملامح كلمات هذا المواطن الفرنسي من أصل سنغالي تعكس، في العمق، شعوراً بالخوف من جنوح اليمين المتطرف إلى استغلال ما حدث لتصفية الحساب مع المهاجرين من أصل عربي وإفريقي، خصوصاً وأن المواطن الفرنسي كوليبالي المنحدر من أصول إفريقية هو من قاد عملية الهجوم على المتجر اليهودي، ليضفي على المأساة أبعاداً أكثر تعقيداً، ولينتعش من جديد الخطاب المناهض لمعاداة السامية، ليستثمر الحدث بالكيفية التي يشاء.

سماء باريس كان يتخللها مطر خفيف، وثمة موجات برد لاسعة تجمد الأصابع، وتشل أي رغبة في التجول والتقاط صور تذكارية. لكن، على الرغم من الجو البارد، كانت ساحة لا كونكورد تعج بمجموعات من السياح، خصوصاً الآسيويين الذين لم يعيروا كبير اهتمام لاضطرابات أحوال الطقس، ولم يكن يعنيهم في شيء التحليق المتواصل لمروحيات كانت تمشط سماء باريس، واليوم هو موعد المسيرة التي ستقفز بفرنسا وشعبها وقادتها إلى واجهة الأحداث.

الدراجات النارية وسيارات الشرطة المرافقة لضيوف باريس من رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء خارجية ورموز من مختلف الدرجات والأوزان كانت تملأ الشوارع والساحات القريبة من قصر الإليزيه ضجيجاً وصداعاً، لكنها بالضرورة رموز تنتمي إلى منظومة السلطة، تشعر الفرنسي والأجنبي بأن هناك دولة ومؤسسات وقوة وهيبة.

في ساحة لا كونكورد، كنت أبذل مجهودا استثنائيا لأتحمل غارات الجو البارد، كنت أبحث عن مصدر دفء لأحمي أصابعي التي كادت تتجمد، والأمطار الخفيفة التي كانت تغسل ما تبقى من دم جرائم الأربعاء كانت تزيد الموقف صعوبة، وبين الأجواء الباردة وضجيج المروحيات والدراجات النارية وسيارات الشرطة، كان ملاذ أغلبية السياح تناول النبيذ الساخن وأكلات سريعة.

كنت على موعد في ساحة لا كونكورد القريبة من قصر الإليزيه مع صحافي مغربي، حيث كان يغطي وصول عدد كبار الضيوف، ومنهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والرئيس الفلسطيني، محمود عباس. أكره الانتظار، ويصيبني بالضجر، لكن، سرعان ما التحق بي زميلي، ليطلب مني مرافقته إلى ساحة الأمة، نقطة نهاية مسيرة الأحد 11 يناير/كانون الثاني. ربما كان حدسه المهني يذهب صوب اختصار المسافات واقتناص لحظات مفصلية من المسيرة، علما أن الوصول إلى ساحة الجمهورية كان يبدو مسألة مستحيلة، والظفر بسيارة أجرة لم يكن سهلاً. تحركنا في أكثر من اتجاه، كنا ننادي بأعلى صوت "تاكسي"، وكنا نلوح بالأيادي، لعل سائقاً يلتفت إلينا. جاءتنا سيارة أجرة، لكن سائقها أبلغنا أن كل المنافذ والمسالك المؤدية إلى ساحة الأمة مغلقة. وحلاً توفيقياً، طلبنا منه أن ينقلنا إلى أقرب نقطة. وكذلك حصل. قطعنا ما تبقى من مسافة سيراً على الأقدام، تحت مراقبة الشرطة، إلى أن أشرفنا على ساحة الأمة التي كانت غاصة بحشود من المتظاهرين من كل الأعمار والأصول. كانوا مسلحين بشعاري "أنا شارلي" و "كلنا شارلي"، وشلالات من الحماس والمشاعر الجياشة والاعتزاز بالانتماء إلى فرنسا وشعارات التنديد
والإدانة كانت تؤثث ساحة الأمة. عمد مشاركون إلى احتلال قلب الساحة، حيث تم تثبيت أعلام عدد من الدول فوق التماثيل التي تتوسط قلب ساحة الأمة، بينما كان متظاهرون يهود عديدون يحملون رموزهم الدينية، ويشهرون الشعار الذي يريدون، من دون إحساس بأي حرج أو تضييق أو نقص.

بدافع الفضول، حاولت الاقتراب أكثر، للوقوف على أجواء المتظاهرين، وملامحهم. كانت أصداء الشعارات والتصفيقات تهز المكان. وعلى الرغم من البرد القارس، تحمل الفرنسيون ذلك كله، وكيفوا حالتهم النفسية والذهنية، وكذلك أجسامهم، لتحمل كل الصعوبات. وكانت لدى رجال الأمن والدرك الذين كانوا ينتشرون في كل النقط حظوة خاصة لدى المتظاهرين الذين كانوا يرون فيهم أبطالاً قوميين. لذلك، صفق لهم الفرنسيون طويلاً.

الشمس على وشك المغيب، وباريس التي تضمد جراحها، وتحتوي تداعيات مأساتها، وتعيش على إيقاع زمن عالمي، كانت شوارعها وساحاتها وشرفاتها ممتلئة بالمتظاهرين الذين، وإن غادروا الشرايين الحيوية للمسيرة، فإنهم ظلوا في قلب الحدث، وهم في حالة إشباع غير مسبوقة، بفضل مشاعر الوحدة والتماسك والاعتزاز بقيم الجمهورية التي كرستها تلك المسيرة المليونية والتاريخية، في حياة الشعب الفرنسي.

سائق سيارة أجرة آخر من هايتي رافقته ثلاثين دقيقة من جادة كرونيل إلى جامعة باريس 8، وكان يتابع تطورات الأحداث في سيارته، من إذاعة، وبعدما تحدثت معه عن مآسي بلاده ومخلفات الديكتاتورية وآثار الزلزال على الاقتصاد والعباد، كان أكثر دقة وعقلانية وحذراً. تساءل عن أسباب هذا التطرف، وهذه الحرب الهوياتية. ليمارس كل واحد قناعاته ومعتقداته بدون تعصب، والقوانين تضمن حقوق الجميع. لكنه أردف قائلاً إن المشكل هو أن تتحول مأساة شارلي إيبدو والمتجر اليهودي إلى مبرر جماعي للانتقام وارتكاب أعمال عنف.

في المؤسسات الجامعية، ليس هناك ما يدل، صراحة، على ثقافة الانتقام. لاحظت فتيات محتجبات ويرتدين ثيابا تغطيهن بالكامل، يتحركن بكامل الحرية، بل ويجلسن مع زميلات لهن يرتدين الميني ويدخن السجائر. ربما الفضاءات الجامعية أكثر انفتاحا وتسامحا وعقلانية ورزانة، غير أن موظفة في جامعة باريس 8 حكت لي أن مشاعر العداء والانتقام باتت ملامحها واضحة على وجوه الفرنسيين. كشفت لي أن شخصا من أصول إفريقية، في قطار كانت تسقله، لاحظت أن ركاباً كانوا ينظرون إليه نظرات شك واستفزاز، فلم يعد الأمر، الآن، مقتصرا على العرب والمسلمين من أصول مغاربية وشرق-أوسطية، بل امتد، أيضاً، إلى الفرنسيين من أصول إفريقية، بسبب فعلة كوليبالي.

مهاجر مغربي مقيم في باريس، ويعمل فيها منذ سنوات، تحدثت معه ساعات، نقل لي أن جزءا من الفرنسيين، تضخمت لديهم الإسلاموفوبيا بشكل مرضي، وأنهم باتوا يشكون في أي سحنة عربية أو مسلمة. ولتأكيد ما أشار إليه، قال لي إنه طلب منه، هو وزميل يشتغل معه، لإصلاح مكيف في منزل، ولما كان يهم بدخول مصعد العمارة وفي يده أدوات يستعين بها في إصلاح أعطاب أجهزة التدفئة والتبريد، توجس منه أحد سكان العمارة ورفض أن يشاركه المصعد، والمثير أنه المغربي لم ينتبه للأمر، ولم يقرأ الموقف في سياقه الحقيقي، بل لاحظ ذلك زميله الفرنسي.

وأضاف محدثي إن مسلمي فرنسا سيعيشون أياماً صعبة، وسيكابدون كثيراً في ممارسة معتقداتهم، بل سيتحولون إلى فريسة مفضلة لليمين والمتطرفين. وها هي المساجد بدأت تحرق، وأماكن العبادة تستباح، وكل من يظهر أنه ينتمي إلى الديانة الإسلامية، خصوصاً بثياب يمكن أن يتعرض للتعنيف، وربما للقتل. وهذا ما أكده مواطن فرنسي يعمل في محل لبيع الخبز، عندما أسرّ، لي ولزميل صحافي، إنه، ولكونه يسكن في ضواحي باريس، هناك حالة من الغليان والهيجان بين المراهقين والشباب المنحدرين من أصول عربية ومسلمة، بسبب الاعتداءات التي تمارس ضد مسلمي فرنسا وبسبب تطرف صحيفة "شارلي إيبدو"، وتماديها في إهانة الرسول مجدداً، من دون مراعاة لمشاعر المسلمين في العالم، بل سخر هذا الفرنسي البسيط من السلوك غير المبرر الذي عاودت إنتاجه "شارلي إيبدو".
ما يخشاه مسلمو فرنسا وهم يجتازون تمرينا صعباً أن يصبحوا لقمة سائغة في أفواه العنصريين، وهدفا لمكارثية جديدة على الطريقة الفرنسية.