شرعية الخوف والتخويف

شرعية الخوف والتخويف

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
لا تكاد تنجو دولة عربية واحدة اليوم من شظايا التوترات والأزمات، وإنْ بدرجاتٍ مختلفة ومتباينة. بعض الدول تمزّقت بمعنى الكلمة، وأخرى تتمزّق على نارٍ هادئة، تحت وطأة الحكم الاستبدادي والأزمات الداخلية، وهناك دول أصبحت أنظمتها تتكئ فقط على شرعية الخوف والتخويف!
تنوّعت، في العقود الماضية، مصادر الشرعية لدى الأنظمة العربية، استند بعضها إلى شرعية تاريخية - دينية، وأخرى كاريزمية، ولكن غابت بصورة كبيرة الشرعية القانونية - الاختيار (إذا اعتمدنا تقسيم ماكس فيبر للشرعيات).
كان هنالك حكم استبدادي، لكنّه يستند إلى كاريزما مشروعات ثورية، عناوين قومية أو تنموية. وكان هنالك حكم تاريخي يستند إلى شرعية دينية، وإلى اقتصاديات ريعية تُقايض الولاء بالمنافع. لم يعد أيّ منهما قائماً اليوم، فلا توجد شرعيات كاريزمية، وتبدّدت الشرعيات التاريخية والدينية، فلم تعد صالحة للاستثمار. لم يجد الحكام أو الحكومات أمامهم سوى الخوف والتخويف، بعيداً عن أي مكاييج للتجميل أيديولوجية أو سياسية.
يعيدنا ذلك إلى المربع الأول، تلك الشروط التي أسّست للحظة الربيع العربي وفجّرت ديناميكياته، وهي نفسها تعود اليوم بصورةٍ أكثر وضوحاً، ولكن من دون أن نعرف إلى أين تتجه الأمور مع التحول في الاستجابة المتوقعة من محاولات الاحتواء أو التأديب أو التخويف البسيط إلى القمع الشديد والشراسة إلى أبعد مدىً في مواجهة أي محاولة للاحتجاج أو الاعتراض السلمي، وهنا تبدو معضلة الواقع العربي الراهن..
فمن جهةٍ هنالك ظروف وشروط قهرية، اقتصادياً وسياسياً ومجتمعياً، وصلنا إلى مؤشراتٍ مرعبةٍ في معدلات البطالة والفقر والحرمان الاجتماعي، وانعدام فرص الحياة الطبيعية في دولٍ كثيرة، وإلى مجتمعاتٍ كاملةٍ تأسّست على اللجوء والنزوح، وأجيالٍ لا تعرف إلا معنى الحرب الأهلية والخوف والرعب، فضلاً عمن فقدوا عائلاتهم أو حتى أطرافهم. ومن جهةٍ أخرى، لا يوجد أفقٌ مفتوحٌ ولا تغييرٌ سلمي، ولا ضوء في نهاية النفق لهذه الأزمات المعقّدة والمتراكمة، وكأنّ المجتمعات دخلت في "طاحونة" موت وهلاك دائمة.
ربما يكون الخيار الوحيد لنسبة من الشباب هو التوجّه إلى أقصى درجات الراديكالية، نحو الداعشية والجماعات المتطرّفة والإرهابية، طالما أنّ البدائل الأخرى غير متاحة ولا ممكنة. وقد يكون الخيار أمام آخرين السباحة مع التيار، وفق وصفة "شريعة الغاب" والبقاء للأقوى، فإما التماهي مع السلطة وميزان القوى، والقبول بأي طريقةٍ تؤدي إلى "البقاء" و"النجاة"، وهكذا تجد شريحةٌ اجتماعيةٌ واسعة نفسها (خصوصا من الطبقة الوسطى التي تفضّل في العادة الحلول السلمية والمعتدلة) نفسها "عالقة" في هذه المناخات الموبوءة المسدودة، من دون القدرة على اجتراح آفاق، وربما ينجرف جزءٌ منها إلى الاتجاهات الأخرى؛ إما هذا التماهي أو الراديكالية المفرطة التي قد تصل إلى العدمية، أو إلى "شريعة الغاب".
في المقابل، ثمّة فرق كبير في الدرجة بين ما كانت عليه "الحالة الرسمية" العربية قبل الربيع العربي وما وصلت إليه اليوم، في سياقات عملية ترميم "النظام الرسمي"؛ في أيّ درجة؟ في مستوى القمع والدكتاتورية والتعامل مع المعارضة السياسية والاحتجاجات السلمية، إذ كانت درجةً معينةً من استخدام العنف بأنواعه المختلفة، مادياً ورمزياً ومجتمعياً - اقتصادياً، لكن ردود الفعل تتجاوز اليوم، في أغلب هذه الدول، ما كانت عليه الحال. ويلخّص ذلك مثقف عربي قال لي "كنا قادرين في النظام السابق أن ندفع كلفة المعارضة، أمّا اليوم فأصبحت الكلفة الإنسانية باهظة تماماً، غير ممكنة. لذلك يلجأ كثيرون إلى الصمت والاختباء". بالطبع، حتى الصمت لم يعد مقبولاً في حالات أخرى.
طالما كان الخوف والتخويف أحد مصادر الشرعية العربية، ولكن بصورة مبطّنة، متواريةٍ عن الأنظار، مع كثير من التلطيف، والتغليف بالدعاية السياسية والفكرية. أمّا الآن فأصبح المصدر الرئيس في حالاتٍ كثيرة، وبلا أي عملياتٍ تجميلية، فقط هكذا عليك أن تقبل لأنّنا نخيفك، أو أنّك خائف.
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.