نهاية الحوار في السودان

نهاية الحوار في السودان

29 يناير 2015

الأمن السوداني يفرق تظاهرة مناوئة للبشير (11مارس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

يبدو أن الدورة الخبيثة الملازمة للحياة السياسية في السودان باتت تسرع في دورانها، وبوتائر تزداد سرعة وسخونة، وتشيع توتراً في الأنحاء. والدورة الخبيثة هذه هي حالة لأعراض المرض الذي يصيب الحكم في السودان. حالة تراوح في دورة بين حكم مدني تعددي، ثم انقلاب عسكري يخلط أوراق السياسة، ثم ثورة شعبية، يليها حكم تعددي، ثم انقلاب عسكري. هكذا كانت الحياة السياسية في السودان منذ استقلاله عام 1956. الآن، تدفع بالأمور نحو هذا التسارع في الأحداث الحكومة السودانية التي باتت مصدر كل التوتر الذي أصاب الحياة السياسية، فمنذ أن أعلن الرئيس، عمر البشير، قبل نحو عام، عن إطلاق الحوار الوطني الذي يفترض فيه مشاركة كل القوى السياسية السودانية، فإن الأمور ليس فقط لم تتحرك إلى الأمام، وإنما منيت بانتكاسات موجعة، جديدها الإعلان ستة عشر حزباً من المشاركين في الحوار مع الحكومة تعليق مشاركتهم، ما جعل الرئيس البشير يعلن أن الحوار ماض بمن حضر.

ولكن، تتجمع عواصف فوق سماء السودان في العام الأخير، زادت من درجة الاحتقان السياسي، وتدفع بالأمور نحو مواجهة مكشوفة بين الحكومة والمعارضة التي أخذت تلملم أطرافها، وتتوحد في تحد سافر، وغير مسبوق للحكم.

وتتفق القوى السياسية المعارضة، تقريباً، على خطوط عريضة، تتمثل في شروط رئيسية، لإطلاق حوار معافى، وهي إيجاد المناخ المواتي للحوار نفسه، ووقف الحرب في أقاليم دارفور وكردفان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات وتأجيل الانتخابات. وطوال العام الذي مضى، ومنذ إعلان الرئيس إطلاق الحوار، لم يتحقق شيء من هذا. وبدلاً من توافر المناخ، كانت الحكومة تبادر بتعكير صفو الحوار من تكرار اعتقالاتٍ، طالت رموز المعارضة البارزة، من الصادق المهدي، تلاه اعتقالات طالت اثنين من أهم الوجوه القانونية في السودان، رئيس تحالف قوى الإجماع المعارض والأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب، فاروق أبو عيسى، ورئيس اللجنة السودانية لحقوق الإنسان، أمين مكي مدني.

وترافق هذا بحملة عسكرية، هدفها، وفقاً للحكومة، القضاء على الحركات المسلحة في دارفور. وفوق هذا كله إصرار الحزب الحاكم على المضي في التحضير للانتخابات الرئاسية، على الرغم من إعلان المعارضة مقاطعتها. بمعنى آخر، إن الحكومة السودانية تعلنها، صراحة، أن النية لم تكن، أصلاً، صادقة في تبني الحوار الذي اعتبر خطوة مهمة لتجنيب البلاد الأسوأ. فالانتخابات وفقاً للواقع الراهن تعني عمليّاً أن لا مكان للحوار، لأن المرجو والمفترض أن تأتي العملية الانتخابية تتويجاً لمخرجات الحوار، والحكم الانتقالي المفضي إلى مرحلة جديدة، تطوي مرارات الماضي والتفرد بالحكم. لكن، ما جرى، وبدلاً من تعليق القوانين المقيدة للحريات، أدخلت الحكومة تعديلات دستورية جديدة، منحت الرئيس مزيداً من السلطات المطلقة والمحصنة من المساءلة. وبدلاً من الانفراج والحريات، أصبح التضييق على الحريات سمة طبعت الأشهر الماضية.

واعتقادي أن الأزمة في السودان قد بلغت ذروة جديدة وعالية جدّاً، فالحراك الحكومي يتسم بمفارقته المنطق، وبالعناد الزائد الذي يغلق كل المخارج والحلول السياسية. والتعب والإنهاك بين طرفي المعادلة، حكماً ومعارضة، قد بلغ منتهاه. وحجم الفساد من المتنفذين في الدولة من مسؤولين في الحكومة، أو متنفذي الحزب الحاكم، بلغ درجة من التعفن، تؤكد أن دولة القانون لم يعد لها وجود فاعل نافذ. وبالنظر إلى حجم التغيير الذي أجرته الحكومة منذ العهد الترابي الأول (أيام نفوذ حسن الترابي)، والذي كان نسخاً مطابقاً للطريقة الإيرانية في توزيع مهمات وواجبات المؤسسات ذات الطابع العسكري، وتحويلها إلى ما يشبه المليشيات، فلم تعد المؤسسة العسكرية بذاك الزخم الذي كان في السابق. بمعنى آخر، تنضج الثورة الشعبية شروطها الذاتية والموضوعية، وتستحكم حلقاتها، فالحكم عاجز عن الحكم وإدارة شؤون البلاد والقوى المعارضة، على الرغم من تجميع قواها في خطواتها الأخيرة، إلا أنها ليست في وارد إسقاط النظام.

ينبئ هذا الوضع المرهق بصدام المتعبين في السودان، وينبئ باحتمالاتٍ، كلها تصب في المواجهة والعنف، وهي النقطة الحرجة التي طالما حذر من عواقبها الصادق المهدي، واتخذها مدخلاً لدخوله في الحوار الذي يموت اليوم أمام أعين الجميع. والكلمة الفصل، لسوء الحظ، بيد الرئيس عمر البشير، فإما أن يظهر حنكة سياسية، ويقدم تنازلات حقيقية، ويذهب في اتجاه الحلحلة، أو أن يسطر تاريخاً مأساويّاً جديداً، يلحقه بسابقة فصل جنوب السودان وتمزيق ما تبقى من السودان. انتهت السياسة في السودان، وضاق حيز الخيارات، وبقي بصيص من أمل، لعل فيه نجاة البلاد والعباد.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.