الحاجة إلى حرية متعادلة

الحاجة إلى حرية متعادلة

19 يناير 2015
+ الخط -

تضمن المبدأ الثالث من مبادئ "كامدن" حول حرية التعبير والمساواة، في الشق المتعلق بالإطار القانوني لحماية حق المساواة، مجموعة توصيات ينبغي تضمينها في القوانين المحلية لعدد من الدول، حتى تتم صيانة هذا الحق وحمايته من كل أشكال التعسف. ومن أهم التوصيات التي أدرجت في هذا السياق:
"لكل إنسان الحق في عدم التعرض للتمييز على أساس الأصل، أو النوع، أو العرق، أو الدين، أو المعتقد، أو الإعاقة، أو العمر، أو التوجه الجنسي، أو اللغة، أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، أو الأصل القومي، أو الاجتماعي، أو الجنسية، أو الملكية، أو الميلاد، أو أي وضع آخر".
الأحداث الإرهابية، التي عاشتها باريس يوم 7 يناير/كانون الثاني 2015 الأسود في تاريخ الجمهورية الفرنسية، فجرت نقاشا عالميا، حول حرية الرأي والتعبير، والمساواة، ونبذ العنف والتحريض على الكراهية والتمييز على أساس الدين أو العرق أو اللون، وقد اتخذ النقاش أبعادا خطيرة، وصلت إلى حد المساس بقيم الوحدة والتعايش والتسامح داخل المجتمع الفرنسي، بسبب تباين المرجعيات الدينية والفكرية والأيديولوجية للمعنيين به.
في ظل هذا الاحتقان الذي لعب فيه المثقفون ورجال السياسة والإعلام بكل أصنافه "المرئي، المسموع، المكتوب" دوراً سلبياً لا ينسجم مع الأدوار التي ينبغي للإعلام أن يلعبها، بات مطلوباً من الجميع دولاً، حكومات، أحزاباً سياسية، مجتمعاً مدنياً، وسائل إعلام، التعاطي بشكل عقلاني وحكيم مع الوقائع الإرهابية التي كانت فرنسا مسرحا لها، لتفادي السقوط في مغبة الانقسام والفتنة والعنصرية والكراهية على أساس العرق أو الدين.
ما حدث في فرنسا من أعمال إرهابية جبانة، ينبغي فهمه في كل أبعاده الثقافية والسياسية والإعلامية والدينية، بدل تضييق نطاقه في عنصر الدين، وكأن من نفذوا الجريمة في باريس، كائنات سقطت على فرنسا من السماء.
المجرمون، بغضّ النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني، هم مواطنون فرنسيون، ولدوا في فرنسا وترعرعوا فيها ودرسوا في مدارسها، ومن غير الجائز ربط أفعالهم الإرهابية بأصولهم أو دينهم.
إذا كان الأخوان كواشي وصديقهم كوليبالي قد أجرموا في حق فرنسا، وفي حق مواطنيها الآمنين، فهناك ملايين من العرب والأفارقة الذين يعتنقون الدين الإسلامي، يساهمون في بناء فرنسا من مواقعهم المختلفة. هناك المهندس، وهناك الوزير، وهناك المثقف، وهناك الإعلامي، وهناك الفلاح.
لماذا، إذن، يحرص بعضهم في فرنسا على تغييب كل هذه الأمور، ويحاول، بطرق مغرضة، ربط الإرهاب بالإسلام والمسلمين؟ هل تحتاج فرنسا إلى تضميد الجراح، أم إلى تعميق النزيف؟ هل تحتاج إلى الوحدة أم إلى الانقسام؟ هل تحتاج إلى التعايش بين الأديان أم إلى الفتنة؟
على من يتحججون بحرية الرأي والتعبير للإمعان في الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، بمبرر أن هذه الحرية لا يمكن تقييدها بأي شكل، أن يدركوا أن الإنسان الذي كان ذئباً لأخيه الإنسان، بحسب تعبير هوبز، لم ينتقل من حالة الطبيعة إلى حالة التمدن، إلا بإخضاع علاقاته الإنسانية والمجتمعية لضوابط القانون، وفق عقد اجتماعي، يحدد الحقوق والواجبات.
مسألة حرية الرأي والتعبير ليست حقا غير قابل للتقييد، بدليل أن المادة 19 من العهد الدولي حول الحقوق المدنية والسياسية قيدت هذا الحق. فما الذي يمنع فرنسا التي جرمت معاداة السامية من وضع قانون يجرّم تشويه صورة الأديان، وازدراء الرموز الدينية، مسيحية كانت أم يهودية أم إسلامية؟
هذا هو منطق الأشياء، وهناك قرارات صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعن المفوضية الأممية لحقوق الإنسان، توصي منذ سنة 2006 بضرورة حماية صورة الأديان من التشويه، إضافة إلى وجود تقارير يرفعها المقررون الخاصون المعنيون بالأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب، وما يتصل بذلك من تعصب، إلى مجلس حقوق الإنسان، تؤكد جميعها على استحالة فصل تحليل الاتجاه المتزايد نحو تشويه صورة الأديان عن السياق السياسي والإيديولوجي.
لن يكون هناك أي تقييد لحرية الرأي والتعبير في المجتمع الفرنسي، إذا اعتمدت فرنسا قانونا يجرّم ازدراء الرموز الدينية وتشويه صورة الأديان، لا سيما وأن لفرنسا قانوناً يجرّم معاداة السامية. على المجتمع الفرنسي أن ينتصر للوحدة وللتماسك وللتعايش والتسامح، وإقرار قانون يجرم تشويه صورة الأديان، ليس فيه أي انتصار لأي طرف على آخر في فرنسا، بل العكس، فإن إقراره سيكون فيه انتصار لقيم الجمهورية الفرنسية التي ينبغي لقوانينها أن توازي بين الحرية والمساواة والمسؤولية.

avata
avata
خالد أوباعمر (المغرب)
خالد أوباعمر (المغرب)