دلالات الاحتجاجات في جنوب الجزائر

دلالات الاحتجاجات في جنوب الجزائر

31 يناير 2015
+ الخط -
تشهد الجزائر حركات احتجاجية في جنوب البلاد ضد استغلال الغاز الصخري. وعلى الرغم من أن البلاد تشهد، منذ أكثر من عقد، احتجاجات شبه يومية متفاوتة التعبئة والانتشار، فإن منطقة الجنوب لم تحرك ساكناً إلا نادراً. فهذه المنطقة تشكل حوالي 80% من المساحة الإجمالية للجزائر، ولكن لا يسكنها إلا حوالي 10% من إجمالي السكان. بيد أن هذه الكثافة السكانية الضئيلة للغاية تقابلها كثافة طاقوية، لا مثيل لها، كون الصحراء الجزائرية تختزن، في باطنها، ثروة نفطية وغازية (الغاز الطبيعي)، تشكل المصدر الأساسي لاقتصاد البلاد (تمثل المحروقات حوالي 97% من إيرادات الجزائر). وحتى لما شهدت الجزائر حركات احتجاجية ضخمة، كما حدث في 1981 في منطقة القبائل، وفي 1986 في قسنطينة وسطيف، وفي 1988 في الجزائر العاصمة، وفي 2001 في منطقة القبائل، وفي إحدى مدن منطقة الأوراس في 2004، فإن باقي مناطق الوطن، بما فيها الجنوب، لم تحرك ساكناً. والملاحظ، عموماً، في ما يخص الاحتجاجات الاجتماعية في الجزائر، بما في ذلك التي ترفع مطالب سياسية واضحة، أنها لم تتخذ يوماً بعداً وطنياً، وبقيت، بغض النظر عن المنطقة التي اندلعت فيها، محصورة في بؤرتها الجغرافية الأصلية، من دون امتداد أو انتشار في باقي أرجاء الوطن. فهي تأتي منقطعة ومتقطعة الأوصال في الزمان والمكان. وربما يدل هذا البعد المحدود على غياب وعي وطني جامع، وعلى غياب ثقافة التضامن وطنياً، وأيضاً على قدرة السلطة على إدارة الاحتجاجات، بشكل يحول دون تعميمها على مستوى الوطن. وتعتبر هذه العوامل من بين العوامل المفسرة لتوقف الربيع العربي عند أبواب الجزائر.
بيد أن الجزائر تعيش، اليوم، نقلة نوعية، ليس فقط من حيث مضامين المحتجين ومطالبهم، ولكن، أيضاً، من حيث التوزيع الجغرافي للحركات الاحتجاجية. ففي وقت يبدو فيه الشمال متعباً ومحبطاً من حراك اجتماعي طال أمده، من دون أن يحقق النتائج المرجوة، استعاد أهل الجنوب المبادرة، عبر البوابتين: الاجتماعية-الاقتصادية والبيئية-الاقتصادية. وهذا دلالة على تنامي وعي غير معهود، لا سيما في ما يتعلق بالثانية. فأول أكبر احتجاجات شهدها الجنوب الجزائري (لا ندرج ضمن هذه الحركات الاحتجاجية المواجهات الطائفية التي تشهدها مدينة غرداية، منذ حوالي سنة ونصف، وبشكل متقطع) اندلعت في حاسي مسعود (788 كلم جنوب العاصمة)، القلب النابض للاقتصاد الجزائري، حيث تظاهر أهلها، كما تظاهر أهل ورقلة (عاصمة الولاية) مطالبين بتوزيع عادل للثروات، وبتشغيل أهل المنطقة في محطات استخراج النفط والغاز في منطقتهم. ولسان حالهم: أهل المنطقة أولى بثرواتها، بعد عقود من التهميش والحرمان.
وإذا كانت هذه الاحتجاجات الاجتماعية قد وضعت الجنوب، ولأول مرة في صدارة الأحداث الوطنية، مانحة الحركة الاحتجاجية في الجزائر بعداً جنوبياً، حيث لم يعد الغليان الاجتماعي ينسحب على مناطق الشمال دون سواها، فإن الاحتجاجات تبقى، كما قلنا، منقطعة عن بعضها، ومتقطعة زمانياً ومكانياً. وبما أنها ترفع مطالب اجتماعية، تستند، بالأساس، إلى حق أهل
المنطقة في ثروتها النفطية والغازية، فإنه لم يكن من المتوقع أن تستفيد من تضامن المناطق الأخرى. لأن مجرد هذه المطالبة يعني أن باقي مناطق الوطن تستفيد من هذه الثروة أكثر مما يستفيد منها أهل الإقليم الجغرافي الذي تستخرج منه. وعليه، فعلى الرغم من تقاطع مطالبهم الاجتماعية مع المطالب الاجتماعية للمناطق الأخرى، فإن الحجة الإقليمية، بغض النظر عن صواب الحجة من عدمه، تحول دون إطلاق حركة تضامن وطنية. لذا، بقيت البوابة الاجتماعية-الاقتصادية محدودة.
بيد أن الأمر يختلف مع البوابة البيئية-الاقتصادية، لأن الحركة الاحتجاجية التي تزداد تعبئة وانتشاراً هي الخاصة برفض استغلال الغاز الصخري في جنوب البلاد، لأسباب بيئية. وهنا، تكمن النقلة النوعية في الاحتجاج الاجتماعي على السلطة السياسية. ففضلاً عن تعبيره عن مطالب اجتماعية – تحسين مستوى المعيشة، العيش الكريم – فهي تعبر، أيضاً، عن وعي سياسي وبيئي جماعي، لم تعهده الجزائر من قبل. وهنا مكمن المشكلة للسلطة السياسية، لأنه لا يمكن إشباع هذا المطالب بالتحويلات الاجتماعية بضخ أموال معتبرة في برامج اجتماعية (سكنات اجتماعية، تسهيلات مختلفة منها قروض السكن وقروض إنشاء المؤسسات بدون فائدة والتي غالباً ما تُمسح في نهاية المطاف دون أي رقابة مالية) لتلبية المطالب الاجتماعية، وبالتالي شراء السلم الاجتماعي. فالمتظاهرون في مدينة عين صالح (1270 كلم جنوب العاصمة) يرفضون استغلال الدولة الغاز الصخري، نظراً لمخاطره المؤكدة، حسب الدراسات العلمية، على البيئة. فمباشرة بعد إعلان الحكومة نيتها استغلال أحواض الغاز الصخري، لا سيما في مناطق عين صالح وتميمون (1226 كلم جنوب) بدأت الاحتجاجات تتوالى وتزداد انتشاراً. فبعد مدينة عين صالح، عرف كل من مدينتي تيميون وتامنراست (ما يقارب 2000 كلم جنوب) مظاهراتٍ احتج فيها السكان على قرار الحكومة، مطالبين بالتراجع عنه، والتوقف عن التجارب الأولية. والملاحظ أن هذه المسيرات الاحتجاجية المناوئة لاستخراج الغاز الصخري تجمع مختلف شرائح المجتمع وفئاته، ما يدل على وعي بيئي واضح، وعلى صعوبة استمالة المتظاهرين مالياً، لأنهم لا يحملون مطالب اجتماعية فئوية، بل مطلباً بيئياً-اقتصادياً.
ومن ثم تطرح هذه الحركة الاحتجاجية تحديات للسلطة السياسية التي لم تتعود على مطالب من هذا النوع، مطالب في غاية من الوعي المجتمعي، رسالتها السياسية واضحة: لم تعد الخيارات الاقتصادية الكبرى للبلاد حكراً على الحكومة، بل للمجتمع المدني الناشئ كلمته فيها. وربما هذا البعد الجديد العابر للفئات والمصالح الفئوية الضيقة هو الذي يفسر امتداد حركة رفض استغلال الغاز الصخري إلى شمال البلاد، حيث شهدت مدن مثل وهران (غرب) وباتنة (شرق) والجزائر العاصمة (وسط) مسيرات احتجاجية، نظمها نشطاء وجمعيات المجتمع المدني. وربما هنا الفرق بين احتجاجات الجنوب واحتجاجات الشمال. فالأولى جاءت بعد تعبئة شعبية عامة، انخرطت فيها مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، أما الثانية فهي نتاج نشاط جمعوي للتعبير عن رفض الغاز الصخري، وللتضامن مع سكان الجنوب في احتجاجاتهم عليه. ومن غير المستبعد أن يهدأ بال أهل الجنوب، بعد إعلان الحكومة أن استغلال الغاز الصخري مستبعد حالياً، مع الإشارة إلى اعتبارات الأمن الطاقوي للبلاد مستقبلاً (بمعنى أنه سيُستغل عند الحاجة)، بل ردوا على إعلانها بمسيرة جديدة. وإذا كانت الحكومة استبعدت، إلى حد الآن، التعامل بالقوة مع المتظاهرين ضد الغاز الصخري، وحتى وإن افترضنا أنها ستتمكن من فض الأزمة بضخ مبالغ ضخمة في مشاريع تنموية وإنشاء ولايات جديدة في الجنوب (كما أُعلن عنه أخيراً)، فإن الدلالة الأقوى لهذه الحركات الاحتجاجات هي حق الشعب في المشاركة في صناعة القرارات الاقتصادية الاستراتيجية للبلاد. ما يفتح صفحة جديدة، متوترة في الغالب، في العلاقة بين السلطة والمجتمع.

دلالات