ابن عروس في الأرجنتين!

ابن عروس في الأرجنتين!

24 ديسمبر 2014

تظاهرة في بوينس آيريس ضد الحكم العسكري (1983/Getty)

+ الخط -

وفي الأرجنتين هناك حتماً، شاعر شعبي مثل شاعرنا العظيم، ابن عروس، قال لأهلها كلاماً مثل الذي قاله لنا ابن عروس "لا بُدّ عن يوم معلوم، تترد فيه كل المظالم، أبيض على كل مظلوم، إسود على كل ظالم"، وربما يتذكر أهل الأرجنتين أن مقولة شاعرهم تلك ظلت مثاراً للسخرية عقوداً من الزمان، ظنوا فيها أن العدل لا يأتي إلا في نهايات الأفلام التجارية، لكن العدل أدركهم، أخيراً، عندما وجد من يديم السعي إليه، ويجدّ في طلبه، ويؤمن بضرورته من أجل الأمن والاستقرار والتنمية.

في الأسبوع الماضي، وفي مواصلة لمساعي تصفية ملفات الحكم العسكري المليئة بالجراح الدامية، أصدرت محكمة بوينس آيرس حكماً بالسجن المؤبد على أربعة عسكريين قاموا، في سبعينات القرن الماضي، باختطاف وتعذيب ثلاثة فنانين معارضين، هم إكتور أوستريلد أشهر رسام كاريكاتيري في تاريخ الأرجنتين، والكاتب الروائي أرولد كونتي، والسينمائي ريموندو جليثير، ضمن أكثر من مائتي معارض سياسي، تعرضوا للخطف والاحتجاز بمركز اعتقال سري، يقع خارج العاصمة، أما الجناة الذين دانتهم المحكمة فهم مأمور مركز الاعتقال السابق، وثلاثة من العسكريين، سيبقى اثنان منهم تحت الحجز المنزلي، لأنهما تخطيا السبعين عاماً ويمران بظروف صحية سيئة، ومع ذلك، لم تعفهم العدالة من مواجهة تبعات أفعالهم الوحشية.

يروي تقرير لصحيفة الباييس الإسبانية، ترجمه الصديق الروائي أحمد عبد اللطيف، تفاصيل مهمة عن الضحايا الذين أنصفتهم العدالة، بعد زمن طويل، نعرف من خلالها أن استهداف عسكر الأرجنتين لهم لم يكن عشوائياً، بل كان ثأراً من كفاحهم الشرس ضد الاستبداد وسعيهم إلى تحذير شعب الأرجنتين من مخاطره الكارثية، فرسام الكاريكاتير أوستريلد انضم عقب الانقلاب العسكري الذي وقع سنة 1976 إلى مجموعة يسارية معارضة، ولم تجد السلطة سبيلاً لإسكات صوته الناقد المشاغب، إلا بخطفه، هو وأفراد أسرته، ليودع في معتقل "بيسوبيو" الذي كان يسمى، تهكماً، الشيراتون، ويتم قتله بعدها بعامين، وهو لا يزال في سن الثامنة والخمسين، لكن ذكراه ظلت حاضرة، حيث يتم الاحتفال بيوم الكاريكاتير في يوم 4 سبتمبر الذي يوافق تاريخ تأسيس أوستريلد في عام 1957 لمجلة "أوراثيرو سيمانال" ـ أو ساعة الصفر ـ والتي رسم فيها شخصيته الشهيرة "إتيرناوتا" التي تحكي عن بطل شعبي، يقوم بتحرير أبناء وطنه من الحكم القمعي.

أما الكاتب أرنولد كونتي، والذي تعرض للاختطاف وهو في سن الخمسين، فقد كان عضواً في حزب العمال الماركسي الثوري، وهو صاحب روايات، مثل "جنوب شرق"، "حول قفص العصافير"، "ما سكاروا الصياد الأمريكي" ورواية "في الحياة" التي فاز عنها عام 1971 بجائزة بارال الإسبانية، وكانت لجنة التحكيم وقتها مكونة من أسماء مهمة، من بينها جابرييل جارسيا ماركيز وماريو فارجاس يوسا. في حين تعرض السينمائي ريموندو جليثير، عضو حزب العمال الماركسي الثوري، للاختطاف وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وكان قد أنجز عدة أفلام تسجيلية، كان أولها فيلم "الأرض تحرق" عن فلاحي البرازيل عام 1964، ثم أنجز في عام 1970 فيلماً تسجيلياً عن ثورة المكسيك المجمدة، تم منعه في المكسيك والأرجنتين، وخلال الديكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين صور سراً فيلم "سويفت 1971" عن خطف وإطلاق سراح القنصل البريطاني في مدينة روساريو، وصور فيما بعد عن مذبحة تريليو التي تعتبر أول مذبحة تجسد إرهاب الدولة في التاريخ الأرجنتيني الحديث، ليختفي، بعد ذلك، في ظروف غامضة، وليبقى ما قدمه من أفلام دافعاً ملهماً لتحفيز الشعب على المطالبة بمحاكمة من قمعوه، والعمل على ألا يفلتوا أبداً من يد العدالة، مهما بلغوا من العمر عتيّا.

لم يكن هذا الحكم الأول، فقد سبقته، خلال السنوات الماضية، سلسلة أحكام قضائية شامخة بحق وحقيق، لم تتشطر فقط على صغار المجرمين، بل وضعت كبار جنرالات الحكم العسكري، وقادة شرطتهم، وراء القضبان، لم يصدر هذا الحكم لأنه صادف قاضياً ابن حلال، بل سبقه عمل توثيقي وحقوقي دؤوب، استمر أربعين عاما، حرص فيه كل أقارب الضحايا وأحبابهم على تذكر قتلاهم، وتذكر قاتليهم أيضا، من دون أن يسمحوا لأحد بأن يتاجر بدماء ضحاياهم، أو يستغلها سياسياً في عقد صفقات تدّعي بعد النظر لتخفي قصر النفَس ودناوة النّفس، أو يدفعهم إلى ردود فعل انفعالية غير محسوبة تسهل إفلات القتلة من العدالة، فكان لهم ما سعوا إليه من عدالة، وإن جاءت متأخرة، ونحن أيضا، سيأتينا، عندما نسعى وحين نستحق، يومٌ معلوم، كالذي بشّر به ابن عروس "تترد فيه كل المظالم، أبيض على كل مظلوم، إسود على كل أولاد العروس بالصاد".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.