2025 وأحاديث المنجّمين الْجُدُد
كَثُرَ المنجمّون في الأزمنة الحديثة، ولم تعد موضوعات التنجيم وقراءة الطالع تقتصر على موضوعات بعينها، بل اتسع مجالها وشمل قضايا كثيرة لم تكن بالأمس يُخاض فيها، فأصبحنا اليوم أمام مجال مفتوح على كثير من أوجُه الحياة وأسئلتها. ظهرت قنوات خاصّة بالتنجيم في فضاءات التواصل الاجتماعي، وتحوّل بعض المنجّمين نجوماً، أصبح بإمكانهم نشر وتعميم مجموعة من المواقف والخيارات السياسية، وتحوّلت شبكاتهم في الفضاء الافتراضي منصّةً للرأي القادر على مجابهة الآراء المتداولة، في قضايا السياسة والأخلاق والحرب.
ليس الحديث هنا تحت تأثير دلالة التنجيم والمنجّمين، كما رسمت الثقافات القديمة صوّرهم ونوعية حضورهم، بل إننا نريد الاقتراب من عوالم التنجيم الجديدة السائدة اليوم، وقد أصبحت في العقود الماضية عنواناً لظاهرة تزداد اتّساعاً، لتصنع كثيراً من أوجُه الفرجة والتأثير داخل مجتمعاتنا. ونعتقد أن التصنيف القديم، الذي كان يربط الظاهرة بالنبوات والسحر والشعوذة قد تقلّص، وسمح بميلاد خطابات أخرى في التنجيم، قادرة على ممارسة كثير أو قليل من التأثير في حياة الأشخاص والجماعات.
تُبرز أدوار المنجّمين في مناسبات عديدة، إذ ينتبه الناس لمختلف المواقف الصادرة عنهم، ويعدّون العدّة للاستفادة من أقوالهم، في الأمور المرتبطة بحياتهم الشخصية أو المرتبطة بأحوال الطبيعة وظواهر المجتمع. وعندما ننتبه لصفحات الأبراج في الصحافة المكتوبة، أو نلج فضاءات التواصل الاجتماعي، نُفاجأ بالحضور الواسع لمنصّات التنجيم، ونوعية المهامّ الجديدة التي تُتداول داخل هذه الفضاءات، كما نُفاجأ بنوعية المستندات التي يلجأ إليها المنجّمون الجُدُد، وهم يخوضون في إشكالات ترتبط بقضايا ذات صلة بمستقبل الجماعات والأفراد.
حروب التحرير في التاريخ لا تخضع لحسابات الأبراج، ولا علاقة لها بحركة النجوم والأفلاك في السماء
برز في مواقف سياسية كثيرة، متعلّقة بما بعد الحرب العدوانية الماضية على الفلسطينيين في غزّة، وفي باقي الأراضي الفلسطينية المحتلّة، خطابات النصر والهزيمة، خطابات الهدنة وما بعدها، تدعو إلى العجب، بعضها يتحدّث بكثير من اليقين والثقة عن النصر الصهيوني، ويُعلِن دعمه للصهيونية، ولمن يقف وراءها من دول الغرب الإمبريالي. وقد وظِّفت منابر إعلامية عديدة، تحوّل فيها أصحاب الرأي إلى منجّمين، فاستعانوا بالسردية الصهيونية وشعارات الإبادة والتهجير، التي وُظِّفت زمن الحرب والهدنة، وبدأوا بنسج نتائج وخلاصات الحرب قبل نهايتها، تناسوا مختلف شروط وسياقات المقاومة العائدة، وردّات الفعل العدوانية الجارية فوق الأرض المحتلّة، وبدأوا يتحدّثون عن النصر والهزيمة، بل يتحدّثون بكثير من الصلف عن التطهير العِرقي، والقتل الجماعي والإبادة، مغفلين أن حساباتهم الفلكية كما تعبّر عنها خطابات منجّميهم، لا يمكن أن توقف مسلسل المقاومة والتحرير.
يتناسى المنجّمون الجُدُد، وهم يقتربون من مجال الصراع السياسي، أن حروب التحرير في التاريخ لا تخضع لحسابات الأبراج، وأن لا علاقة لها بحركة النجوم والأفلاك في السماء، إنها تملك بلاغة خاصّة، ترتبط بمفاتيح وأدوات لا تشبه بعضها في تواريخ المقاومة والتحرير، التي حصلت، ويتوالى اليوم حصولها في التاريخ. ويشكّل استنادهم إلى السردية الصهيونية مرجعهم الأول والأخير. إنهم لا يكلّفون أنفسهم عناء تأمل دلالات الصمود التاريخي، الذي ارتبط ويرتبط بمعارك التحرير في التاريخ، ولا ينتبهون إلى صوّر العَودات المتواصلة في موضوع القضية الفلسطينية طيلة عقود الاحتلال الاستيطاني الصهيوني.
القضية الفلسطينية قضية شعب يتعرّض منذ عقود لحرب الإبادة والمحو
تقوم تسويغات المنجّمين الجُدُد، وهم يحلّلون العناوين الكُبرى للهدنة المبرمة اليوم، بين الكيان الصهيوني وبعض فصائل المقاومة والتحرير في فلسطين، على إثارة مخاوف عديدة ونشر الذعر. ولا يتردّد المكلّفون بتعميم هذه الخطابات في وصف طوفان الأقصى بالمجازفة غير المحسوبة، من دون أن يكلّفوا أنفسهم ذكر بدائله السياسية. لا أحد منهم يستطيع الجواب عن سؤال متى تكون المقاومة المحسوبة ممكنة؟ وهم يحلمون بمسارات في ترتيب الفعل المقاوم في التاريخ، لا علاقة لها بالتمظهرات التي يمكن أن تتّخذها الأحداث الحربية في التاريخ.
نقرأ "طوفان الأقصى" فعلاً مقاوماً، ومرتبطاً بسياق تاريخي وسياسي مُحدَّدين، نقرأه خياراً صانعاً لعملية خلخلة قوية لسنوات من جمود مسلسل السلام المرتبط بالطغيان الصهيوني، الهادف إلى مزيد من عزل غزّة عن باقي الأرض المحتلّة في فلسطين. وفي ضوء الأحوال العربية والفلسطينية، نقول إن المقاومة الفلسطينية العائدة، أربكت الكيان الصهيوني وحاصرت سرديته، ولأنها واصلت (وتواصل) إصرارها على الصمود، رغم ما لحق بالفلسطينيين من ويلات، جرّاء العدوان الصهيوني، فإنها ولجت بفعل مقاومتها دروب الانتصار القادم.
يعادل انتصار المقاومة الصمود المتواصل، ويُذكِّر العالم أجمع، بأن القضية الفلسطينية قضية شعب يتعرّض منذ عقود لحرب الإبادة والمحو، وهي حرب تعرَّض فيها لأصناف المحن كلّها، وأصناف الجرائم كلّها، ووقف فيها الفلسطينيون أمام نيران أسلحة الغرب صامدين، وقفوا بشجاعة أسطورية أمام جحيم النيران والخراب والجثث، جثث النساء والأطفال والشيوخ، كما سمعوا في غمرة مقاومتهم في الليل وفي النهار، أصوات الذين اختنقوا ودُفِنوا تحت أنقاض الأبنية، وفي غرف المستشفيات والمدارس. حمل أبناء غزّة شعار التحرير، لتذكير العالم أجمع بأن القضية الفلسطينية لم تنتهِ، وأعلنوا أن ولاءات المُطبِّعين (والمُقبِلين على التطبيع) لن تدفعهم إلى السكوت على الاستعمار الاستيطاني، في مختلف الصُّور والمواقف التي مارسها (ويمارسها) في الأرض المحتلة.
يفضّل المقاومون الجُدُد بلاغة الفعل، ويرون أنها البديل المناسب لشروط عيش اليوم في الأرض المحتلة
حمل المقاومون الجُدُد شعار التحرير، وانتصروا على كلّ من يواصل حمل السردية الصهيونية، ويرفع شعارات الضمّ والاستيطان والتوطين والشرق الأوسط الجديد، واجهوا خطابات المنجّمين الجُدُد وأحلامهم التوسّعية. أمّا المقاومة الجديدة المتواصلة، فإنها تعرف أنها أمام معارك جديدة قديمة، معارك التهجير والإبادة، معارك التجويع والتدمير المادي والنفسي، معارك أخلاق السلام والنسيان، ووصْف الطوفان بالمجازفة غير المحسوبة، من دون تساؤل عمّن يملك حساب المقاومة وحساب أزمنتها في التاريخ.
نتصوّر أن المقاومين الجُدُد يفضّلون بلاغة الفعل، ويرون أنها البديل المناسب لشروط عيش اليوم في الأرض المحتلة، ونريد أن نردّد في غمرة الحرب المتواصلة اليوم زمن الهدنة، أغنية الفتاة الدنماركية، التي عبّرت عن تضامنها مع القضية الفلسطينية، بمفردات داعمة لمشروع المقاومة والصمود والأمل في التحرير. تقول كلمات الأغنية:
"فلنكن أوفياء ونقف دائماً في صف العدالة. لا خوفاً، بل لأن التاريخ سيثبت أننا سنحرّر فلسطين هذا العام".