2021 ذكرى نكبة إسرائيل

2021 ذكرى نكبة إسرائيل

23 مايو 2021
+ الخط -

لعلّها مريم الثانية التي انتبذت مكاناً شرقيّاً على شاطئٍ أجرد، كي تضع حملها (وما أثقل حملها!). بين مريمين نبذٌ وعزلة وولادة عسيرة. الأولى أنجبت مسيحاً، والثانية أنجبت أملاً، وكلتا الولادتين غيّرت مجرى التاريخ، الأولى تُدعى مريم والثانية تُدعى غزّة.

وثمة طباق بين "العهد القديم" و"العهد الجديد"، فلا أحد صدّق المرأتين غير المؤمنين بالمعجزات. الأولى أنجبت طفلاً من دون أب، وغزّة أنجبت ثورة من دون "أب" أيضاً، وصنعت معجزتها عندما مشت فوق البحر الأبيض المتوسط بقدمين عاريتين، ولم تغرق.

الجميع نبذ غزّة. أجمع على نبذها الأشقاء والأعداء، بمن فيهم شارون نفسه، عدو العرب اللدود؛ لأنّها صعبة المراس، عنيدةٌ كفرس برّية، لا تقبل بنصف الحقيقة وربع الجغرافيا، على الرغم من أنها عاشت على أصغر مساحة جغرافية، قياساً إلى عدد سكانها، لكنّها كانت مساحة حرّة قابلة للرفض والصهيل.

أرادوها مكبّاً بشريّاً ومنفىً لغير المرغوب فيهم من المشاغبين و"العصاة" و"الصعاليك"، لكنّها أصبحت مهوى الشرفاء والقابضين على جمر الوطن. حاصروها من كلّ الجهات، فحاصرت كلّ الجهات، وهرست المطرقة والسندان، وأصبحت همّ صهاينة اليهود وصهاينة العرب والغرب على السواء.

كان الحصار مفتوحاً، لا يقتصر على البقعة الجغرافية وحسب، بل طاول كلّ من يحمل وثيقة سفر غزّاوية لا تختمها المطارات، ولا تجيزها النقاط الحدودية. وإن قيّض لأحدهم أن ينفذ من من إحداها، تطارده حصاراتٌ أشدّ وأبلى، لا تقتصر على تقييد تحرّكاته، ولا تنتهي بحرمانه العمل والتملّك والانخراط في النقابات... أن تكون غزّاويّاً خارج غزّة فأنت مشبوهٌ ينبغي حشرك في أضيق حيّز ممكن، وأن تدفع لقاء "استضافتك" أضعاف ما يدفعه ضيوفٌ آخرون. ولا يهدأ لهم بال إلا حين يرونك عائداً إلى مسقط رأسك، على الرغم من أنّ الرحيل كان خيارك قبل أن يسقط رأسك في بلادهم.

يتيمةٌ غزّة، لم يعترف ببنوّتها أحد، لكنّها غدت أمّاً للعرب جميعاً في هذه اللحظات الفارقة من الزمن، وليس بعيداً ذلك اليوم الذي سيقال فيه إنّ غزّة عطفت التاريخ، وغيّرت مسراه من نكبة العرب سنة 1948 إلى نكبة الصهاينة في عام 2021، ففي هذا العام، تحديداً، بدأ العدّ العكسي للاحتلال الصهيوني، وفيه بدأ الحلم التوراتيّ بالتصدّع الفعلي ببضعة صواريخ لا تحمل المتفجّرات وحسب، بل تحمل بذور فناء المستعمر، ونهوض المارد الفلسطيني من زجاجته.

لم تنتصر غزّة لأنّها أطلقت الصواريخ، بل لأنّها حرّرت الإنسان العربي من إحساسه المزمن بالدونية. لم يكن المقصود إبادة العدوّ، بل إبادة مشاعر العجز المتأصّلة في الروح العربية منذ أزيد من قرن. صواريخ غزّة كانت أشبه بالصواريخ الصوتية التحذيرية التي تطلقها الطائرات الصهيونية على الأهداف المنتقاة، قبل ضربها بالصواريخ المدمّرة، وكأنها تبعث رسالةً مفادها بأنّ الضربة الحقيقية غدت أقرب إليكم من غيّكم وعربدتكم.

على هذا النحو، في وسعنا أن نفهم هستيريا الآلة العسكرية الصهيونية التي استعر أوارها في الحرب أخيراً على غزّة، وكأنّها حرب بقاء؛ فقد التقطت "إسرائيل" الرسالة جيداً، بعدما أفلت الزمام من يدها، هي التي كانت تعتقد في الزمن الذي سبق صواريخ غزة أخيراً أنّها أحكمت السيطرة على القرار العربي تماماً، ولا سيما بعدما اجتمعت حولها رؤوس التطبيع المجاني العربي كاجتماع الذباب على المزبلة، فباغتتها الصواريخ التي فرّقت جمعها وأعادت فلسطينيي 1948 إلى الخندق العربي، بكامل بُغضهم للمحتلّ، إذ تحت ركام هذه الصواريخ سقط التطبيع كله بشقّيه، الداخلي والخارجي، حتى في أوساط السلطة الفلسطينية التي بدا رئيسها في خطاب له، أخيراً، كأنّه شرب من حليب السباع، وإن صوريّاً، لأنّه مدركٌ أنّ القبب الحديدية والتطبيعية كلّها لم تعد قادرة على اعتراض صواريخ غزة.

ولم يبقَ سوى أن يصوّب الشاعر أبو صخر الهذلي بيته الشهير ليصبح: "وإنّي لتعروني لذكراك (غزةٌ)/ كما انتفضَ العصفور بلّلهُ القطْرُ".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.