وزير إعلام حرب حزيران

وزير إعلام حرب حزيران

05 يونيو 2020
+ الخط -
يُطلِق رئيس مخفر في بلدة فلسطينية في الضفة الغربية على عتّال فيها، صوتُه قوي ويحسن تأدية الأهازيج، لقب وزير إعلام الحرب، بعد أن كلّفه بالمناداة بين ناس القرية، يومين قبل نشوب حرب 5 حزيران 1967، من أجل أن يتجمّعوا في ساحةٍ معلومةٍ ليتسلموا فيها أسلحةً ليشاركوا، إنْ لزم الحال، في حربٍ ستقع مع إسرائيل. والحرب، عشيتها في حينه، لا تعني في أفهام غالبية ناس البلدة سوى أمر وحيد، النصر على العدو.. كيف لا والزعيم جمال عبد الناصر هو قائد العرب فيها. يبدو اللقب الذي صار للعتّال ومسحّراتي رمضان، عبد الشقي، في تلك الأثناء، طريفا وجذّابا. اختاره الوزير والسفير والإعلامي الفلسطيني، نبيل عمرو، عنوانا لروايته التي تشخّص تلك الأجواء "وزير إعلام الحرب" (دار الشروق، عمّان، 2019)، في ضربةٍ موفقةٍ، ذلك أن العنوان، في العموم، عتبةٌ أو يافطةُ دخولٍ إلى النص، وهو هنا مشجّع على هذا الدخول، وعلى العبور إلى الفضاء الذي تصنعه الرواية الأولى لصاحبها، والتي بدت مبشّرةً فنيا، إلى حدّ ما، في نحو ثلثيها الأوليْن (الرواية 196 صفحة)، غير أنها انتكست تاليا، لمّا غفل نبيل عمرو عن أنه يكتب نوعا أدبيا، وليس تقريرا إخباريا، وهو صاحب خبرة طويلة في مهنة الإعلام والصحافة، في منظمة التحرير الفلسطينية إبّان بيروت، ثم في تأسيسه وإدارته صحيفةً في رام الله، وتوليه وزارة الإعلام في السلطة الوطنية (يحمل شهادة جامعية في الإعلام). ولمّا أصابَه التوفيق في غير كتابٍ له، كان فيها ساردا بكيفياتٍ شائقةٍ وقائع وحكاياتٍ شخصية وعامة، عن عمله سفيرا في موسكو، وعن صداقته وجلساته مع محمود درويش (مثليْن)، فإنه انعطف في "وزير إعلام الحرب" إلى "إبلاغ" القرّاء بمصائر شخصيات الرواية، وعيشِها ثم مماتها في أزمنةٍ متقدّمة، بعد أن كانت كثافة القص، وإيقاعه الملموم بحسّ ساخرٍ غالبا، قد تعلقا بيومٍ قبل حرب 5 حزيران وفي يومها نفسه ثم في اليوم التالي، فكأن نبيل عمرو، في نصٍّ أدبي واحد، دخل نادي الروائيين الفلسطينيين بقسطٍ من النجاح ثم خرج منه إلى نادي أهل الصحافة.
احتلت إسرائيل في تلك الحرب، في مثل هذا اليوم، 5 يونيو/ حزيران، قبل 53 عاما، بقية فلسطين وأراضيَ مصرية وأخرى سورية، وألحقت بالعرب، سيما مصر، الهزيمة المعلومة التي حضرت جائحتُها في أعمالٍ أدبيةٍ وفنيةٍ عربيةٍ عديدة. وبعد كل تلك السنوات، ومن ذاكرة يفاعته وشبابه الأول، يستوحي نبيل عمرو عملا روائيا من تلك الأيام، ويختار بلدةً فلسطينية متخيلة، يسمّيها كفر عرب (لعلها دورا قرب الخليل). وعلى ما قال، فإنه بنى شخصياتِها من الحقيقي والمتخيل. وقد يوحي اختيار لقب العتّال عبد الشقي (عبد الشكي بلكنة مجندةٍ إسرائيليةٍ تاليا) عنوانا للرواية بأن هذه الشخصية البطل المركزي في الرواية، لكن هذا ليس دقيقا، فليس لأحدٍ من الشخصيات المتعدّدة، والتي أجاد السرد في تنويعها وتشخيص دواخلها وأحاسيسها، هذه الصفة. وقد اعتنت الرواية بمنظورات كلٍّ منها بشأن الحرب، والنصر الموعود، ثم الهزيمة ووقْعها الحادّ على أمزجتهم وأحوالهم، وذلك كله في لوحةٍ اجتماعيةٍ ذات تفاصيل واقعية، ينشدّ القارئ إلى السرد المتقن الذي صوّرها. بل أيضا في لوحةٍ سياسيةٍ يجوز افتراضها، طالما أن "وزير إعلام الحرب" قدّمت شخصية البعثي، المرتبط قرارُه الترشّح في انتخاباتٍ نيابيةٍ بقرار في دمشق، وأظهرت عدم التزامه برفض الحزب هذا الترشح، لمّا نجحت مسالك عشائرية وعائلية في إقناعه بهذا، ثم يفوز بالمقعد النيابي. وطالما أنها (الرواية) شخّصت الحيرة المقلقة في حشايا صاحب المقهى، الشديد الارتباط وجدانيا وسياسيا بالزعيم عبد الناصر، لمّا سأل نفسَه في اليوم الأول للحرب، بعد الأفراح العريضة بما سمعه ناس القرية من إذاعة صوت العرب عن انتصاراتٍ مصريةٍ مهولة: "كل طائرات إسرائيل سقطت، وكل دباباتها دمرت، ومعظم جنودها قتلوا أو جرحوا، فما الذي أعاق الجيوش من الوصول إلى تل أبيب؟".
رفض عبد الشقي، وزير إعلام الحرب، السابق كما صار بعد يومين على نشوبها، أن يمتثل لأمر مجنّدةٍ إسرائيلية، أن ينادي على الناس في البلدة من أجل أن يسلّموا السلاح الذي تسلموه من المخفر إلى المحتلين. وأوحت الرواية بأجواء مقاومةٍ مسلحةٍ صارت في فلسطين، مع نزوح من نزح إلى الأردن وغيره.. وفي ذلك كله وغيره، اختبر نبيل عمرو قدراتِه روائيا، فتوفق وأخفق في آن، والسبب أنه غالى في بساطة البناء والحكي، ونسي أن حنكةً أخرى في كتابة الرواية كانت لازمة ..
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.