الأمومةّ إرثاً لا غريزة

الأمومةّ إرثاً لا غريزة

29 يونيو 2020
+ الخط -
هذا كتابٌ تحمله معك في أثناء القراءة وبعدها. تقرأ مقاطع قليلة منه، فصلا أو فصلين، إذا صحّت تسميتهما هكذا، ثم تتوقّف لتهضم المحتوى، فيما أنت شاردٌ في منظر جميل، أو منكبٌّ على ما تعدّه من طعام، أو جالس في كنبة لا عمل لك.
"صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر"، للباحثة والكاتبة اللبنانية يسرى مقدّم، الصادر حديثا عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر (139 ص)، عملٌ سهلٌ إذ يُقرأ بقابلية ومتعة وسلاسة، وصعبٌ إذ ما يلبث أن يتبدّى نابعا من شرخٍ لا يلتئم، لا بدّ من التعايش معه. إنه تراجيديا الأمومة كيفما قلّبتها، أمومة اليوم، لا أمومة الأمس، كونها أمومة النسّاء المرّكبات المتمرّدات الرافضات الأدوار النمطية المنوطة بهن منذ الأزل، الراميات إلى ابتكار أدوارٍ أخرى لهن، بالخروج من الزنزانة المقدّسة التي تدعى الأمومة. "كأن ليس لك وجود بذاته خارج وظيفتك الأمومية. نعم، وظيفتك بالمعنى الحرفي للكلمة، ومع سبق الإصرار، الوظيفة المأزق التي لا انعتاق منها، سواء أذعنت لها أو أنكرتها" (ص 77). غير أن هؤلاء النسوة لن ينجون بجلدهنّ، فإمّا هو الشعور بالنقصان والذنب أو هو دفع ثمن مشاهدة البنوّة معذّبة تلوم وتقسو عن حق.
"الأمومة الرسولية" هي إذن أمومة سكنة، والدة يسرى، وما يصحبها من أنانية التنعّم بحبٍّ غير مشروط، يقابله ذعرٌ من دخول زنزانة "الأمومة الجبرية" التي تُلغي المرأةَ، مبقيةً فقط على دورها المريميّ (من مريم العذراء). "أقصر عن محاكاة أمومتك الشاهقة وأرتاب في رسوليّتها في آن". "زنزانتك كانت جنتنا يا سكنة" (ص61 - 62). من هذه المقارنة الموجعة بين أمومتها "الغائبة" وأمومة سكنة الفائضة التي ستحضن وتعنى بحفيدها البكر، يأتي شعورٌ فظيع بالذنب، لكأنّ الأمومة، في نظر مقدّم، شيءٌ موروث، وليس غريزةً كما يتردّد ويقال، أو إنها شيءٌ بتنا نرثه من أمّهاتنا، ولا يولد بالضرورة فينا أو معنا. وفي الحالتين، هو إرث الحبّ الفائض الذي لا يُحتمل في حالة سكنة، وإرث الأمومة الغائبة في حالة يسرى.
والحال أن إلصاق صفة بهذا الكتاب "المختلف" الذي لا ينزع اختلافُه من مزاياه شيئا، يبدو أمرا محيّرا، فالجرأة التي درجنا على لصقها بكل منتج يكسر المحرّمات، لا تفيه حقّه، ومواجهة الذات والاعتراف بنقصانها وأخطائها ومحاسبتها، لا تقع أيضا في متن توصيف هذا العمل الخاص. بل إن الكاتبة، في خاتمته، تُبعد عنها تلك "الشبهات"، إذ تكمن في كل مواجهة خسارةٌ ما، يقابلها فوز، تليه هزيمة، يتبعها نصر. هكذا إلى ما لا نهاية، إذ تلك هي الحياة، "عارية" من كل تزويق أو تجميل أو تستّر أو مبالغة. وتلك هي الأمومة أيضا، عندما تكون النساء حقيقياتٍ وصادقاتٍ في سبر أغوارها، وفي قبول مناطق الظل فيها. أمّهات لسن قديسات، ولسن منذورات فقط لرعاية الأولاد. نساء لسن أبالسة، إنما لهن شياطينهن الخاصة التي تخيفهن بقدر ما تدفعهن إلى الخروج والانتفاض.
عن أمومتها الأولى التي عهدت بها إلى أمها ليتاح لها عيش حياتها، تقول يسرى مقدّم: "الشعور بحريتي كان يُسكرني، فأمتلئ بخفّة عجيبة، أصير أكثر لطافة ورقّة واستجابة وكرما تجاه الخارج، وأنسى. أنسى القفص، أنساكِ وأنسى طفلي يا أمّي" (ص 113). ثم في مقطع آخر: "بيني وبين طفلي نبت عشب الغربة، عميتُ عنه وتركته ينمو إلى أن تكاثف وصار "هشيرا" كذاك العشب الذي يُنبته الهجران وترتجله الحقولُ المتروكة" (ص 124). لذا، قد تكون القسوة تجاه الذات هي أقرب التوصيفات ربما إلى مقاربة طبيعة هذا البوح، من دون أن تتحوّل إلى جلدٍ للذات، طلبا لسَماحٍ أو استدرارا لشفقةٍ أو تكفيرا عن ذنب. ففي الخاتمة التي تختصر فرادة هذه التجربة الذاتية، الأدبية قطعا، والتي تحمل عنوان "كيف اختفيتُ من صورتنا العائلية ليلة الميلاد؟"، ستصدَم يسرى إذ تجد نفسَها غائبة عن الصورة العائلية، على الرغم من وجودها بقرب أفراد العائلة عند التقاط ابنتها الصورة، فيتعاظم شعورها بالاكتئاب والوحدة. "في الحقيقة، أعاني منذ مدّة من إحساسٍ حادّ بالتخلي والإهمال، ويتخلّق لي أني منسيّة ومتروكة" (ص 135). غير أنّ ما تذهب إليه، في النهاية، هو الروعة بعينها التي تضيف فعليًا إلى الكتاب: "سأستغفر نفسي، يا سكنة، وأعدها بالسعي لترسيخ كل ما يؤكّد استحقاقي الذاتي لحياة هادئة لا يعكّرها حصار ولا خوف ولا ذنب" (ص 138). أجل، كان لا بدّ لكل ما جرى أن يجري، هذي أنا، تقول يسرى مقدّم، وقد دفعتُ كلَّ ما دفعتُ. "لكن، يخطئ من يظنّ أن بمقدور المرأة أن تناوش، ببساطة، المقدّسات والمسلّمات الإكراهية، وأن تحسم بيسر وسهولة صراعاتها، ولا سيما إذا كانت المرأة أمّا" (ص 139).
هذا كتابٌ أصيل سيحاكي كثيرين وكثيرات، ومعهم ربما، أجيال قادمة من أمّهات وبنين.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"