الصين وسياسة "الذئب المحارب"

الصين وسياسة "الذئب المحارب"

03 يونيو 2020
+ الخط -
الذين تعرفوا الى أفلام "الأكشن" التي صنعتها السينما الصينية في العقد الأخير خرجوا بانطباع أن الصين تعيش عملية تحضير لمرحلة جديدة، تهدف إلى استكمال خروجها من أسر الداخل الى الساحة الدولية، والذي بدأته مع انفتاحها الاقتصادي أواخر القرن الماضي، إذ تحولت إلى أكبر مصدر للسلع التجارية في العالم، كما حققت نسبة نمو عالية في الناتج المحلي الإجمالي للفرد. وثمّة توقع للبنك الدولي أن يتخطى اقتصاد الصين مثيله في أميركا في مدى قريب، وهو ما أرعب الأميركيين، ودفعهم إلى الهجوم على الصين والسعي إلى خنقها.
وإذا كانت سياسة الصين الخارجية في السابق تقوم على قاعدة العزلة المرنة، المقرونة بانفتاح محدود، لكنه مؤثر، فإنها في المرحلة الجديدة التي تسعى إليها، تقوم على قاعدة فعل "الذئب المحارب" التي تجسّدت في سلسلة أفلام عبرت عن خصائص هذه السياسة وآفاق تطورها.
يركز فيلم "الذئب المحارب" الأول الذي أنتج عام 2015 على زرع الثقة في نفس المواطن الصيني الذي انقطع عن الارتباط بالعالم الخارجي عقودا طويلة بقدرته على التفاعل مع ما يجري خارج بلاده وقبول تحدّي الآخر، وعبر سلسلة من مشاهد لنزالات بين ملاكمين شباب. ثمة رسائل تفصح عن شعاراتٍ يمكن أن تشكل علامات طريق: "الدقة تهزم القوة والتوقيت يهزم السرعة"، و"لا تدع خصمك يجذبك من ظهرك.. تماسك وأبق التحدّي داخلك"، وما بين هزيمة ونصر يتعلم بطل الفيلم أن المهم أن يكون شجاعا، وألا يدع الخصم يرتاح. هنا يتطلع البطل لكسب النزال الذي سيجري في اليابان، والذي يأمل أن يحصل فيه على الجائزة الكبرى، كذلك هي الصين التي تتطلع إلى الخارج، وعينها على الجائزة الكبرى.
ينقل فيلم "الذئب المحارب"، في نسخته الثانية التي عرضت عام 2017، المتلقي إلى عملية عسكرية تحدث في مكان ما، جنوب القارة الآسيوية للقضاء على عصابة مخدرات ونشاطات إرهابية. هنا تبرز البطولة الصينية في أوضح تجلياتها المطلوبة، إذ البطل "لا يفكر بقتل الناس إنما إنقاذ الناس". وتقول الصين كلمتها بصرامة: "لا تستخفوا بالصين، فسوف تعرفون ما الذي تواجهونه.."!
تهدف الرسائل التي تنثال عبر "الذئب المحارب" إلى إثارة النزعة القومية التي ترفض التعصب، 
والاستعلاء، وتريد الإسهام في خدمة العالم، وبناء جسور مشتركة مع الآخر، كي يعيش الكل في أمن وسلام، كما تفصح عن قوة الصين وقدرتها على مواجهة التحدّيات.
وبوحي من هذه السياسة الجديدة، توجهت الصين، بعد جائحة كورونا، إلى المساهمة في إنقاذ العالم من الوباء، ونشرت بعثاتها الطبية مع معدّاتها وتقنياتها في أكثر من مكان من العالم، الأمر الذي أغاظ الولايات المتحدة التي رأت فيه محاولةً لاقتحام عالم محظور عليها، في المنطق الأميركي، اقتحامه، فيما حذر وزير خارجية الصين، وانغ يي، من "حرب أميركية باردة"، داعيا الأميركيين إلى إيجاد سبل لتعايش سلمي، لأنهما ستخسران معا إذا ما دخلتا في مواجهات: "لا تضيعوا وقتكم، ولا تتجاهلوا الأرواح التي تتساقط جرّاء كورونا"!
لوثة النيْل من الصين والكيد لها جعلت الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يهدد بخطواتٍ تصعيديةٍ، من بينها قطع العلاقة معها. وفي الخلفية جملة عوامل ليست جائحة كورونا سوى واحد منها: فشل خطوة فرض رسوم على البضاعة الصينية المصدّرة إلى الولايات المتحدة. تعثر مخطط زرع العقبات أمام مشروع "طريق الحرير" الذي يرى الخبراء فيه تأسيسا لواقع جديد قد ينزع عن واشنطن ميزة الانفراد بقيادة العالم. الخشية من إفرازات تخلي الصين عن الدولار، وطرح عملتها الوطنية بديلا في تعاملاتها الخارجية. القلق من حصار أمني قد تسببه تقنية الجيل الخامس التي لبكين الذراع الطويلة في صنعها.
هناك نقاط حمراء قد تفكر واشنطن في استثمارها، وتوفير عيدان الثقاب لإشعال النار فيها: هونغ كونغ التي أقرت بكين أخيرا تشريعا يحد من سلطة الحكم الذاتي الذي تتمتع به، وجزيرة تايوان التي تسعى إلى الحصول على الاستقلال، فيما تصر الصين على ضمها إلى الوطن الأم، والبر الصيني أيضا الذي ارتفعت أصوات ناشطيه أكثر من مرة في المطالبة بانفتاح ديمقراطي، لكن النظام تمكّن من كبح جماحهم.
هذا كله يفسر حجم التحدي الذي يشكله خروج "الذئب المحارب" من عزلته المحسوبة، والذي دفع بعديدين من رجال السياسة والاستراتيجيا إلى طرح سؤال: هل نحن مقبلون على حرب عالمية ثالثة؟ الجواب ببساطة: نعم.. ولا.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"