محسن إبراهيم .. احتراماً لذكائه ولذاكرتنا

محسن إبراهيم .. احتراماً لذكائه ولذاكرتنا

11 يونيو 2020
+ الخط -
رحلَ الرفيق محسن إبراهيم عن دنيانا بعد حياة حافلة وطويلة. الذين رثوه، وهم من بين محبيه، أشادوا بقدراته وطبائعه الفذّة. الذكاء والتماسك والألمعية والنكتة الحاضرة دوماً، والمجلْجلة أبداً، والذهن المتّقد، والشعارات المحْبوكة بمهارة، فضلاً عن الترفّع عن طلب السلطة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، ورسو سلطة الوصاية السورية المعادية للقيادة الفلسطينة، ولياسر عرفات شخصياً. ومما كان يمرّ من بين سطور هذا المديح: مقارنة ضمنية بين شخصية محسن إبراهيم وشخصيات الساسة الحاليين، الهابطين إلى أسفل المستويات، الأخلاقية والذهنية. ومن يقولون ذلك على حق. ولكنهم نسوا وليد جنبلاط الذي تتلْمذ علي يدي الشيوعيَين، محسن إبراهيم وجورج حاوي، إثر اغتيال والده كمال جنبلاط عام 1977، وكان وقتها لا يتجاوز الثلاثين من عمره. والنتيجة كانت، من الزاوية "الإيجابية"، أن وليد جنبلاط هو أكثر السياسيين اللبنانيين ثقافة وذكاء وأناقة وخفّة ظل، من نوع تلك الخفّة الفاهمة عمق المعضلة والاستعصاء؛ والمثابرة على التعامل معهما بأدنى الخسائر الممْكنة. وهذا طبعاً بصرف النظر عن تذبْذبه، وزعامته الإقطاعية الطائفية، وشبكة العلاقات المصلحية التي يقيمها مع "الشركاء" في الوطن. وهذا إرثٌ عظيم، إذا ما عدتَ إلى مقارنة وليد جنبلاط، شخصا، مع غيره من ساسة لبنان.
الموضوع ليس هنا. نذكر حسنات موتانا، ومحسن إبراهيم كان ذكاءً يمشي على الأرض. ولذلك، فما سيلي من كلام هو احترام لهذا الذكاء، تعبيراً عن الوفاء لعقلٍ ينقد ويفكر ويلاحظ. لا يستطيع المرء التعبير عنه، ذاك الوفاء، سوى بمحاولة استدخال هذا الذكاء .. مجرّد محاولة، أي توسّل هذا الذكاء بصفته إرثا يجب ألا يتبدّد؛ لكونه يجنّب استصغار العقول، في زمن الشحّ الذهني.
عندما اخترتُ الانخراط في منظمة العمل الشيوعي، أو هي اختارتني، وأنا خارجة لتوي من 
المراهقة، أي طرية العود العقلي ومتمرّدة، كان ذلك بناء على مقارنةٍ حفظتها عن ظهر قلب: تقوم على قلب المعادلة المعتَمدة لدى الحزب الشيوعي، أي المركزية الديمقراطية، إلى نقيضها، في المنظمة، أي الديمقراطية المركزية. وجاذبية تلك المنظمة التي وجدت في محسن إبراهيم قائدها، أنها كانت تنْفر من التسَفْيت (سوفيات) ومعها الستالينية التي قتلت الديمقراطية، فنحن في المنظمة، ميزتنا الأساسية، كشيوعيين، أننا ديمقراطيون، أطرنا غير جامدة، نخترع الحلول التنظيمية بسلاسة، والنقاش عندنا مفتوح على مصراعيه .. إلخ. ولكن الذي حصل أن الحزب الشيوعي بدا، مع الوقت، أكثر "ديمقراطية" من المنظمة، وإنْ كانت هيئاته ومؤتمراته وكل أنشطته مبرْمجة، مدروسة، خاضعة لحساباتٍ شبه معلنة.
أولاً، في القيادة العليا بين المنظمة والحزب: منذ تأسيسها، وحتى وفاة قائدها، بقيت منظمة العمل الشيوعي على القائد نفسه. وكانت حجّة الثبات هذا أنه لا توجد شخصية على مستوى قيادية إبراهيم، وكفاءته السياسية. واقع الحال أن أولئك المرشّحين للقيادة العليا، أو الواعدين أنفسهم بها، لم يكونوا يتمتّعون بالصفات القيادية التي لدى محسن إبراهيم. وذلك مفهومٌ نوعاً ما، إذا علمتَ بالخبايا نصف المتستّرة أن إبراهيم أحاط نفسه بقيادة "محدّدة" يقودها، ويحتاج إليها، لداعٍ من الدواعي. هؤلاء الذين عيّنهم، مباشرة أو بالوكالة، بتشغيل كل أنواع الإيحاءات أو الاستلهامات، ما كانوا قادرين على الخروج من عباءته، أو أن يتقدّموا بصفوفهم، أو يحبكوا سيناريوهات مفيدة لهم. بقي محسن إبراهيم، هكذا، قائد المنظمة خمسين عاماً، نصف قرن يعني. فيما الحزب الشيوعي، القمعي، التراتبي، الستاليني، عرف في زمن تزعم إبراهيم المنظمة، خمسة أمناء عامين: نقولا الشاوي (1968)، قبل عامين من "ولاية" إبراهيم؛ ثم تلاه كل من جورج حاوي (1979) وفاروق دحروج (1993) وخالد حدادة (2004) وحنا غريب (2016). إلا أن محسن إبراهيم بقي رئيساً للمنظمة، طوال كل هذه التبدّلات.
النقطة الثانية: لم تعرف منظمة العمل الشيوعي شيئا اسمه "انتخابات"، أو مؤتمرات. ولا انتخاب في المنظمة، من الأعلى إلى الأدنى رتبة؛ إنما "تعيين" من فوق دائماً. أما "المؤتمرات" التي عُقدت على امتداد العشرية الأولى من القرن الحالي، أي بعد مضي ثلاثين سنة على تقلد إبراهيم القيادة، فلم تفضِ إلى "تغييره"، إنما إلى التدرّب على البقاء تحت ظلّه. المؤتمر الأول والاخير نُّظِّم عام 1970. فيما الحزب الشيوعي اللبناني يحفل بالمؤتمرات، المؤطّرة صحيح، المضبوطة صحيح؛ ولكنها حاصلة، تشهد صراعات وتحوّلات، مثل المؤتمر الثاني بعد هزيمة 1967، أو المؤتمر السادس، بعد نهاية الحرب الأهلية، ورسوّ الوصاية السورية على لبنان. الشيوعيون الذين أعرفهم، كانوا يسهرون الليالي في إعداد نصوص المؤتمرات الحزبية، في كتابتها وشرحها لـ"القاعدة" الحزبية في اجتماعات ماراثونية. وكان يتخلّل تلك المؤتمرات بروز وجوه جديدة، وتيارات، وإنْ خجولة، تبقى ضمن نطاق "البيت الواحد".
النقطة الثالثة: أي خلاف داخل المنظمة كان يترجم بانشقاق عنيف. الأول، والثاني، قبل الثالث 
والأشهر؛ خروج الغالبية العظمى من جناح "لبنان الاشتراكي"، الذي عُمِّد بصفته "شريكاً"، في المؤتمر الأول، مع "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين"، فولدت منظمة العمل الشيوعي. ومن بعده خروج مجموعاتٍ وأفراد آخرين؛ وكان ذروة الخروج، بعد اجتياح عام 1982 الإسرائيلي؛ عندما تخلّى قياديون في المنظمة عن منظمتهم، من دون أي نقاش، داخلي أو خارجي، سري أو علَني.
الخروج من المنظمة شكّل، في الغالبية العظمى من التواريخ، حالات قطيعة، شاملة أحياناً. تمتزج فيها المرارة بالغضب، وأحيانا بانقلاب الأيديولوجيا السياسية رأسا على عقب. في الحزب الشيوعي، في المقابل، كان ثمّة آراء وتوجهات تخضّ الحزب بين الفيْنة والأخرى. تخرج المقالات ووجهات النظر المختلفة، من دون انفصالٍ حاد، أو مقاطعة شخصية. الاستثناء الوحيد هو تيار الياس عطا الله، في المؤتمر السادس، خرج صراحةً من الحزب، مع رفاقٍ كثيرين، ليشكّل لاحقاً حركة اليسار الديمقراطي، بعدما كان قائداً عسكرياً، في جبهة المقاومة اللبنانية. والذي لا يتكلم عنه الرفاق الباقون، على الأقل في "العلن"، أي بوجود "غرباء"، إلا بعبارات تهذيبٍ فائقة؛ كما يحصل في الخلافات بين أفراد العائلة الواحدة، فالعلاقات الشخصية بين أعضاء الحزب، الذين تركوا، أو عارضوا، من الداخل أو من الخارج، بقيت في غالبيتها العظمى على درجةٍ من مودّة، تعزّ على نظرائهم من منظمة العمل الشيوعي، حيث الجفاء والريبة، والغيرة وبقاء الحسابات على غلوائها، من دون تصفيتها، وحتى النسيان التام...
كل هذه "الحالة" ليست خطأ محسن إبراهيم وحده. هو تسيّد على المنظمة، واستطاع أن يفرض رئاسته عليها، حتى بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1982. هو الشخصية القوية، المتجاوزة حدود المنظمة، الذي لا تسعه المنظمة.. لم يعرف كيف يبني إطاراً بحجمه، أو لم يستطع. من كان "أوعى" من غيره في المنظمة، كان يعتزّ بتجاوزه هذه الحدود، باتساع المجال الحيوي لزعيمه، كمن يفتخر بقوميته التوسعية، وهو فقير.
أتوقف هنا، لأن المناسبة، الوفاة، لا تعيرنا أكثر من ذلك. وأسجّل تساؤلاتٍ بديهية، بعد هذه المقارنة: هل كانت الشيوعية المسفْيتة، الستالينية، صاحبة الأطر البيروقراطية، والمركزية المتشدّدة والتقاليد نصف الخفية .. هل كانت هذه الشيوعية أكثر نجابةً من الشيوعية الأخرى، التي نشأت على يسارها، أكثر إنسانية، أكثر حفظاً لكرامة أعضائها، أكثر ديمقراطية؟ أيضاً: هل الأطر التنظيمية للمنظمة، المعروفة بتأرجحها، سمحت بثبات الشخصية الأقوى؟ فأتاح السياق لهذه الشخصية القوية بأن تكون، وسط صحبها، كاريزماتية، مشعّة، صاحبة عرش أبدي؟ ثم: هل "قوة شخصية القائد" تعني دوام بقائه ضمن دائرة القرار، بضوء ومن دونه؟ مهما كانت طبيعة مشاريعه؟ وهل "القوة" رديف مؤصَّل للغلَبة أو الرئاسة؟ مهما ضاقت حدود هذه الغلَبة؟ مهما تنوعت وجهتها ومجالاتها؟

دلالات