الجلاء السوري ولغة الخطابة

الجلاء السوري ولغة الخطابة

10 مايو 2020
+ الخط -
الحديث عن استقلال سورية الذي سُمي اصطلاحاً "الجلاء" ذو شجون كثيرة. لقراءته بشكل موضوعي يجدر بنا أن نركن لغة الإنشاء والخطابة جانباً، ونبحث عن أفكارٍ وقناعاتٍ لم تستهلكها مئات الصفحات التي دبجت منذ دخول الجنرال غورو بقواته إلى دمشق، صيف 1920، تنفيذاً لقرار الانتداب المبني على اتفاقية سايكس بيكو.. ولعل أولى المرويات التي تستحق النسف القائلة إن غورو، فور دخوله دمشق، ذهب إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي، وقال له: ها قد عدنا يا صلاح الدين.. أراد مخترعو هذه الحكاية ومروّجوها أن يعطوا الوجود الفرنسي في سورية صفة الغزو الديني، الصليبي، فحصل، بذلك، تشويشٌ كبيرٌ على طبيعة القضية، وللأسف فإن هذا التشويش ما زال مستمراً.
لا نستطيع، الآن، أن نسأل التيارات والأحزاب السياسية وضباط الجيش الذين تصارعوا على سورية بعد جلاء فرنسا 1946، لماذا تصارعتم؟ كما لا يمكننا أن نلوم الدول الكبرى والصغرى التي تجاذبت الدولة السورية الصغيرة، الضعيفة، وسعت إلى السيطرة عليها.. المُلام الوحيد، إذا جئتم للحق، هو نحن أبناء الشعب السوري الذين لم نضع ما جرى في خدمة حاضرنا ومستقبلنا، ولم نشكّك بصحة المعلومات التاريخية التي قدّمت لنا، بل صدّقناها جملة وتفصيلاً.
صدّقنا، بداية، أن الأعمال القتالية المتفرّقة التي استهدفت قوات الانتداب الفرنسي اسمها ثورة. كان علينا أن ننظر فيها، ونتساءل؛ أهي ثورة جياع؟ ثورة استقلال وطني؟ ثورة عمال وفلاحين؟ ثورة صناعية؟ أم أنها كانت ثورة "إجلاء" للقوات الفرنسية عن سورية، وحسب؟ لعل أهم وأضخم كتاب تناول الأعمال القتالية ضد الفرنسيين كتاب "تاريخ الثورة السورية في عهد الانتداب الفرنسي" لأدهم آل جندي، فهو مرجع توثيقي أساسي عن الرجال الذين حملوا السلاح في وجه الفرنسيين خلال ربع قرن، ابتداء بالذين بدأوا ثورتهم سنة 1918، أي حينما كانت القوات الفرنسية متمركزة على السواحل السورية، ابتداء من اسكندرون وحتى بيروت فقط، وصولاً إلى الذين قاوموا الانتداب الذي بدأ في 20 يوليو/ تموز 1920. العيب الأساسي الأول في هذا المرجع هو اللغة الخطابية، فكان يبدأ توصيف أي واحد منهم بقوله فلان من أهالي البلدة الفلانية الكرام، الذي أبى أن تدنس تراب بلاده أقدام الغزاة فهبّ مدافعاً منافحاً.. والعيب الأساسي الثاني هو اعتبار الذين حاربوا فرنسا، من دون استثناء، "ثواراً" مع أن بعضهم كانوا "مجاهدين" لم يحاربوا فرنسا لأنها دولة احتلال فرنسية، بل لكونها غير مسلمة، صليبية، وبعضهم، كما جاء في "الكتاب الذهبي" لمنير الريس، كان ينتظر انتهاء المعارك ومغادرة القوات الفرنسية أرضَ المعركة حتى يهبّ للاستيلاء على الغنائم. وكان أحد أبناء منطقة إدلب، مثلاً، قد ارتكب أعمالاً جنائية، والمحاكم الفرنسية أصدرت أحكاماً قضائية بحقه، فانضم إلى الثورة ليتغدّى بالفرنسيين قبل أن يتعشوا به. وكان ثمّة رجال شكلوا عصابة "جتا"، واختصوا بتشليح الأهالي، بذريعة أنهم يفعلون ذلك من أجل تمويل الثورة.
تقول أهزوجة شعبية يردّدها الأطفال، والكبار، إن طائرةً ما حملت إبراهيم هنانو، مع ابنته، وكان في الطائرة خيول أصيلة! مع أن هنانو لم يركب مع ابنته وخيوله في طائرة قط، فالطائرات، أصلاً، لم تكن متوفرةً إلا لدى الدول العظمى، وبندرة، فكيف يتيسر ركوبها لثائر أو مقاوم من دولة صغيرة متخلفة منهكة كسورية؟ غير أن موضوع الطائرة لا يشكل خطراً كبيراً على مجمل القضية، الخطر الأكبر أننا اعتبرنا الحقبة الفرنسية شرّاً مطلقاً، لذلك لم ننظر إلى محاكمة هنانو وتبرئته بوصفها سلوكاً ديمقراطياً راقياً، ولم نفكّر في أن الاستعمار الفرنسي "البغيض" هو الذي أعلن يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1941 استقلال سورية، وعين تاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية المستقلة. باختصار، المستعمر يمنحنا الاستقلال، ونحن نصرّ على تسميته الجلاء.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...