"مملكة الحجاز"... استعادة التاريخ بوعي الراهن

"مملكة الحجاز"... استعادة التاريخ بوعي الراهن

09 مايو 2020
+ الخط -
أعاد فيلم "مملكة الحجاز" الذي بثه التلفزيون العربي من إنتاجه، أخيرا، وكان مكثفاً ويعاين سنواتٍ مفصلية من تاريخ المشرق العربي، إلى المشاهد العربي ذاكرة مملكة الحجاز التي كانت أحد مخرجات الثورة العربية، ووعود الغرب في الاستقلال العربي، والتي ما لبث أن تنكّر لها. 
أبرز الفيلم (إخراج صهيب دولة) وجود بيتين حاكمين، نازعا بعضهما مُلكاً، وحظيا برعاية بريطانية مشتركة، واحد اعتمد على العصبية والدعوة الدينية والغزو والنهب والقتل، بما يرضي نزعة البداوة المتأصلة في أنصاره، وهو خطاب وهابي متشدد، وصورة تسعى العربية السعودية إلى التخلص من إرثها اليوم، في مقابل سلالة ملكية شريفة هاشمية متحضرة، عاشت في إسطنبول، وأدركت مظاهر التمدن، وتتخذ اليوم من شرقي الأردن مملكة هاشمية على مقربة من القدس الشريف التي تحتضن ضريح الحسين بن علي الذي رثاه أحمد شوقي في الرابع من يونيو/ حزيران 1931 قائلاً:
لَكَ في الأَرضِ وَالسَماءِ مَآتِم/ قامَ فيها أَبو المَلائِكِ هاشِم
قَعدَ الآلُ لِلعَزاءِ وَقامَت/ باكِياتٍ عَلى الحُسَينِ الفَواطِم
يقدّم فيلم "مملكة الحجاز" السياسة والصراع على البقاء في منطقة الشرق العربي، عشية الانهيار العثماني والدخول في الحرب العالمية الأولى، حيث كان في وسط جزيرة العرب وجنوبها أربع قوى محلية تتنافس: شريف مكة، وإمام اليمن، وأمير حائل وسلطان نجد، وهي قوى عصبية ودينية، وكان أكثرها عراقةً شريف مكة، الحسين بن علي، الذي قضى سنواتٍ في المنفى في إسطنبول في العهد الحميدي، ولكن السلطان العثماني عبد الحميد ما لبث أن أدرك أن إعادة الاعتبار للحسين، بإعادته إلى منصب الشرافة، قد تكون ورقة رابحة لتأييده من عموم المسلمين في مواجهة خصومه الطورانيين في إسطنبول. وكانت القوى المحلية في شبه الجزيرة العربية تطمح إلى أن ترتقي بوضع خاص أمام السلطنة العثمانية كما شريف مكة، وهذا ما طالب به إمام اليمن في صلح دعان عام 1911 والإدريسي صاحب عسير، وهو ما سعى إليه أيضاً بن سعود (عبد العزيز بن عبد الرحمن، الملقب بالموحد، 1876 - 1953) في نجد، والذي كان يتكئ على قوة العصبية والدعوة الدينية الوهابية التي كانت أقامت دولتها ثلاث مرات، وآخرها مع استعادة الرياض من آل رشيد 1902 وتوحيد القبائل، وكان لقبه الموحّد الأكثر دلالةً على ما قام به الرجل الذي يوصف بأنه من أكثر ساسة الشرق الأوسط حظاً في النصف الأول من القرن العشرين. 
أما أشراف مكة فكان لهم ثقلهم وتقديرهم واحترامهم بين المسلمين والسلطان العثماني وسلطان 
الهند أيضاً، بوصفهم عترة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1908 كما جاء في الفيلم، أصدر السلطان عبد الحميد فرمانا بتعيين الحسين بن علي شريفا على مكّة، والشرافة كانت سلالة حكم طويل الأمد، وفي ذلك الوقت كان السلطان في طريقه إلى الرحيل والعزل. وحين قامت الحرب العالمية (الأولى)، فكّرت بريطانيا بوضع البلاد العربية وكيفية تحييدها، فيحدث أول لقاء لها مع مبعوثان الحجاز (عضو مجلس النواب العثماني)، الشريف عبدالله، في القاهرة في أثناء زيارته الخديوي، لما نصح الأخير الشريف عبدالله برد الزيارة والسلام على المعتمد البريطاني في القاهرة، اللورد كوتشنر الذي فاتحه الشريف عبدالله بشأن إمكانية دعم بريطانيا العرب في الاستقلال، وكان رد ممثل بريطانيا العظمى سلبيا ومخيبا لآمال عبدالله بن الحسين، ولكن الأمور تغيرت مع دخول السلطنة الحرب، وانحيازها في أكتوبر/ تشرين الأول 1914 لتصبح حليفاً للإمبراطورية الألمانية. بعد هذا، عادت بريطانيا لتفتح الموضوع مع الشريف حسين، عبر رسائل المعتمد البريطاني في مصر، السير هنري مكماهون، والتي جاء عليها الفيلم. وركز فيها الحسين على مسألة المصير والاستقلال العربي وحدود الدولة المنتظرة.
أورد الفيلم أن الكابتن ويليام هنري إيرفين شكسبير كان مرسلا إلى عبد العزيز آل سعود في تلك الأثناء، وكان له أول لقاء معه، لكن الفيلم غفل عن الإشارة إلى أن بريطانيا التي كانت تتحاور مع زعيمي نجد والحجاز لم تكن بلا خطة، فنظرتها إلى المنطقة، من خلال البيتين الحاكمين (الهاشميين وآل سعود)، حليفا مشتركا لها في الشرق العربي، جاءت من منظور مدرستين سياسيتين، أولاهما: المدرسة البريطانية الهندية أو وزارة الهند (India – Office)، وظهر فيها جون فيلبي (John Philby) مدافعا ومراهنا عتيدا على قوة ابن سعود ونفوذه المتقدم آنذاك، لتحقيق رؤيته، وهو الرابح في النهاية. والثانية: كانت في وزارة الخارجية في بريطانيا، ومثّلها المكتب العربي في القاهرة (Arab Bureau)، والتي وجدت في الشريف حسين بن علي والأسرة الهاشمية خير من يحقق الأهداف البريطانية في المنطقة، ودافع عن رؤيتها توماس لورانس (Thomas Edward Lawrence).
لم يغفل الفيلم عن تفاصيل الصراع الهاشمي السعودي، بل قدّمها برواية سريعة ومبسطة للمشاهد، ومن دون تعقيد ومحاولة تلمّس الحياد، فلم ينكر نصّ الفيلم قوة عبد العزيز وسطوته وطموحه، وإثارته إعجاب ويليام شكسبير الذي توفي مبكرا، وخلفه في إتمام المهمة جون فيلبي. كان شكسبير ضابطاً وفياً لمهمته، ووفر له ابن سعود غطاء، حيث عمل عنده مستشاراً اعتباراً من عام 1910، فرسم للجيش البريطاني خرائط غير مسبوقةٍ لشرق شبه الجزيرة العربية وشمالها، ورصد أنماط الحياة الاجتماعية وأهم رجالات القبائل، مقدّما أرشيفا فوتوغرافيا كاملا أُرسل إلى أعتى خبراء المخابرات البريطانية في لندن.
أما حروب الحجازيين والنجديين، فهي متوقعة الحدوث داخل أرض الجزيرة، بوجود الشحذ
البريطاني والإغراء المتواصل له، إذ سقطت مملكة الحجاز بعد سلسلة هزائم للهاشميين، بدأت مع معركة تربة عام 1919، وضم عسير لدولة ابن سعود عام 1920، ثم حائل عام 1921، حيث بدأ ابن سعود يعد العدة لغزوه الحجاز. بيد أنّ طموح عبد العزيز وتمرّد قوات الإخوان (إخوان من أطاعوا الله، بحسب تسميتهم التي أطلقوها على أنفسهم)، عليه، أدخلته في أزمات عديدة مع شرقي الأردن بين عامي 1920 -1927، وأشارت إليها الوثائق البريطانية، وطرحها الأردن في مؤتمر الكويت 1923 - 1924 لضرورة وقفها وساهمت بريطانيا بصدّها. كما أن اتفاقية "حدّة/ حداء" الموقعة في سبتمبر/ أيلول 1925 لتسوية أمر الحدود بين البلدين لم تنه الغزوات المتبادلة بينهما. ولم يكن شرق الأردن فقط تحت تهديد الوهابيين، فحرّكتهم هدّدت العراق أيضا، كرّرت غزوها مناطق العراق، وهاجمت قواتهم النجف وكربلاء بين عامي 1790 و 1800. بالإضافة إلى ذلك، هاجموا الطائف، ونكلوا بأهلها وهدّدوا باحتلال مكة 1802 في زمن عبد العزيز الأول بن محمد آل سعود (1721 - 1803، قتل اغتيالا لهدمه كربلاء)، وهو أمر تكرر ثانية، وأكثر دموية في 1924.
أظهر فيلم تلفزيون العربي مستويات متعدّدة من المصادر، وقد لا يكون في وسع أي فيلم العودة لجذور الصراع، لكنه أورد شهادات ونصوصا من الوثائق البريطانية، واستضاف مختصين، في محاولة تقديم سردية تاريخية معقولة، وهو فيلم يخلو من الهفوات الإخراجية، وجميع المعلومات التي وردت فيه موثقة. على أنه صحيحٌ أنه كان يلزم تفسير مسائل عدة، منها أن اختيار ابن سعود لاعبا بديلا عن شريف مكة كان نتيجة صراع وجدل بين مدرستي القاهرة والهند، أو في الحديث عن تولد أزمة إلغاء الخلافة وخشية ابن سعود (عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود) أن يحصد شريف مكة المنصب، بعد أن بويع في عمّان، أو الإشارة إلى مؤتمر القاهرة في 1921 وقراراته، وكذلك الحال في خسارة 
الهاشميين عرش سورية، وأثر النخبة العربية التي وفدت إلى الشريف حسين على قراراته وعلاقته بأبنائه، حيث كان فيصل في لندن يحذر من عناد والده، ومخاطر النخبة الشامية من حوله، بحيث يخسر كل شيء. .. آنذاك، صنف البريطانيون شريف مكّة بأنه عنيد في مبادئه، ولا يمكن زحزحته. وفي المقابل، كانوا يرون، وفي مقدمتهم جون فيلبي، أن عبد العزيز آل سعود رجل المرحلة، وهو الأكثر عصبية وكرما وإنفاقاً للمال لجلب الرجال إلى ساحته. وفي المقابل، كان الساسة البريطانيون حريصين على إذكاء العداوة بين الحجازيين وسلطان نجد الذي اتكأ على عصبية قبلية، ووسع علاقاته بالمصاهرة بين القبائل، وطوّع الخصوم بالاتحاد مع دعوة دينية تمثلها قوات الإخوان (إخوان من أطاعوا الله) الذين بطش بهم لاحقا نتيجة تنامي قوتهم عام 1930.
بدت مكة، عاصمة الحجاز، حسب الفيلم، حاضرة مدينية عريقة، تحكمها أرستقراطية من أرفع بيوت العرب نسباً، ولكن كان يفضل إبراز علاقتها التجارية وتكوينها الاجتماعي الذي انتهى بعد السيطرة السعودية إلى نسخة أحادية متشددة. وبعد العام 1924، استطاع ابن سعود استقطاب عديدين من رجال الحركة العربية الذين عملوا مع شريف مكة، ومنهم يوسف ياسين وخير الدين الزركلي ومحب الدين الخطيب. وفي مقابل ذلك، عمل مؤسس شرق الأردن، الأمير عبدالله بن الحسين، على إزعاج ابن سعود، بتأسيس حزب الأحرار الحجازي، وكان برنامجه العمل على تحرير الحجاز من حكم ابن سعود. وسبق ذلك أن اتهم ابن سعود الأمير عبد الله بدعم حركة ابن رفادة المقاومة للحكم السعودي 1928- 1932، والتي انتهت بمقتل قائدها، ورمي رأسه في شوارع مرفأ ضبا على ساحل البحر الأحمر.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.