أن تكون عبداً في لبنان

أن تكون عبداً في لبنان

09 مايو 2020
+ الخط -
يعلم المقيم في لبنان تماماً مدى الاستنفار اليومي في حياته وسلوكه. يدرك أن كل شيء يفعله، في المنزل وخارجه، يستولد مستوياتٍ عاليةً من الأدرينالين، فتُصبح القرارات مبنيةً على الاضطرابات العاطفية التي تؤدّي مثلاً إلى "الشعور بالفخر"، لأن البلاد طلبت مساعدة صندوق النقد الدولي. وعليه، غابت الواقعية منذ عام 1943، تاريخ الاستقلال عن فرنسا، قبل أن تغيب معها السلوكات الطبيعية في الحروب والأزمات، وصولاً إلى محاولة تغييب ما تبقى من فكر نقيّ في البلاد، عبر تصويره بأنه "متخلّف" لا "مختلف" عن الآخرين. 
طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي يدخل في هذا الإطار. الأحزاب الحاكمة التي طالما نادت بـ"الحرية والسيادة والاستقلال" و"فعل المقاومة" كانت أول المهرولين إلى طلب مساعدة هذا الصندوق. لم تفعل هذه الأحزاب شيئاً سوى تكرار ما فعله أسلافها: "الاستدانة من الخارج، وإلقاء الأعباء على اللبنانيين من دون تقديم الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة لهم". يحقّ لأيٍّ كان التوقف لحظة، والسؤال: إذاً لم قاومت طوال الفترة الماضية؟ لماذا تمّ إيهامي بقدرتي على مواجهة العالم، لا الولايات المتحدة فحسب، ثم إعلامي بأنه "لا بدّ من ضرورة الاستعانة بصندوق النقد الدولي"؟ حسناً، إذا كنت غير قادر على المواجهة فلماذا أخوضها أصلاً، وأرى أهلي وأولادي في حالة متفاقمة من البؤس المادي؟ وإذا كنت قادرا على هذه المواجهة، فلماذا لم تشرحوا لي ماهية خطتها، سواء من ناحية تأمين حاجات الناس لتكريس الصمود، أو لناحية تحصين البلاد عسكرياً وسياسياً؟ لا أحد على وجه هذه الأرض يمكنه إقناع أي فرد في لبنان، بأن القدرة على الإنقاذ مرتبطة حصراً بالصناديق الخارجية. كان يمكن إلغاء امتيازات النواب والوزراء والعسكريين. كان يمكن إعادة عدد النواب في المجلس النيابي إلى 108 نواب، لا 128، لأن استحداث 20 مقعداً نيابياً منذ عام 1992 مخالف للدستور. كان يمكن إلغاء استئجار الدولة مبانيَ متفرقة، وحصر كل الوزارات تقريباً في السراي الحكومي. كان يمكن تفعيل الخطط الاستثمارية في مختلف الأقضية، وبحسب حاجاتها، بما يسمح بنوع من الحكم اللامركزي الذي نصّ عليه اتفاق الطائف. كان يمكن حصول أشياء كثيرة تمنعنا من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي. كان يمكن إعادة الأموال المنهوبة بقرار فعلي، لا صُوري.
ولكن هذه الطبقة التي أفرزتها سنوات ما بعد الحرب كانت فعلياً استسلامية للخارج، وقمعية للداخل، تشبه تلك التي سادت قبل الحرب، لكننا لم نر عيوبها، لأن الازدهار الاقتصادي كان مهيمناً. يريدون إقناعنا بأن استدعاء ناشط بسبب منشور على "فيسبوك" أو "تويتر" يهدّد الأمن القومي أكثر من أموال منهوبة، طالبت بها الحكومة برئاسة حسان دياب، قبل أن تتراجع عنها تحت بند "عفا الله عما مضى". هذه الطبقة، جميعها من دون استثناء في السلطة والمعارضة ومدّعي الاستقلالية، التي انصاعت للسفارات والخارج، اتهمت الناس بأنهم "عملاء للسفارات".
تخيّلوا، أنه في الوقت الذي يشهد فيه لبنان حرباً تجويعية من تجار فاسدين محميين من هذا النظام بفعل غلاء الأسعار المتفاقم، لا يكترث من طلب مساعدة صندوق النقد الدولي بالناس، بل يظنّ أنه ما زال في سياق لعبة سياسية تقليدية، فيصطنع بعضهم صدامات ثنائية، وآخرون يدافعون عن أصهارهم، وهناك من يهددنا بأيام عسكرية. هل سألتم أنفسكم: "لماذا يفعلون هذا؟". اسألوا مرة واحدة وستعرفون الجواب: لا أحد منهم يعاني كما تعانون. لا أحد منهم يدفع فواتير الكهرباء والوقود والطعام والطبابة والتعليم، في حال كان ضمن منظومة الوظائف الرسمية. أما إذا كان خارجها، انظروا إلى أملاكه وقارنوها بأعلى راتب ممكن تلقيه في الجمهورية اللبنانية، وستجدون الجواب. لا أحد منهم يكترث بأي فرد في لبنان، بل جميعهم، من دون استثناء، يريدون فقط البقاء في السلطة، وعليك أن تكون عبداً لهم، لا إنساناً حرّاً.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".