صناعة الاستخفاف وسياسات التمجد والاستبداد

صناعة الاستخفاف وسياسات التمجد والاستبداد

08 مايو 2020
+ الخط -
من أهمّ سمات الاستبداد والمستبدّين، التحول إلى حالة من التألّه. يحاول كل مستبد عتيد أن يظهر كل صفات جبروته وطغيانه ورسم صورته كإله أو نصف إله، في حالة من صناعة الاستخفاف بقومه وعموم الناس، ومحاولة إقرار ذلك في أذهانهم. من أهم عناصر بيئة الاستبداد "المستبدُّ في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنساناً فصار إلهاً"، إلا أنه "حينما ينظر حوله، ويتفحص شأنه، لا يرى في نفسه على الحقيقة إلا حالة عجز، وأن سلطانه وطغيانه لا يكون إلا بأعوانه"، ثم يُرجع النظر فيرى نفسه في ذات الأمر أعجز من كلِّ عاجز وأنَّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الريش في رأسك طاووساً وأنت غراب؟ أم تظن الأحجار البرّاقة في تاجك نجوماً ورأسك سماء؟ أم تتوهّم أنَّ زينة صدرك ومنكبيك أخرجتك عن كونك قطعة طينٍ من هذه الأرض؟ والله ما مكَّنك في هذا المقام، وسلَّطك على رقاب الأنام، إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر أيها الصغير المكبَّر الحقير الموقّر، كيف تعيش معنا. فالمستبد يعرف حقيقة تألهه، والأعوان في قرارة أنفسهم يعرفون أنهم أدوات بطشه وطغيانه، ولولاهم لما كان لتألهه أثر وطغيان، الذين هم أدواته قدراً، فهذا حال المستبد والأعوان في الصورة وصناعة الصورة المتبادلة. 
وفي سياقات صناعة حالة الاستخفاف التي ترتبط بجمهور الناس، والرعية في سياقات مجتمع الفرجة، والمتفرجين والمقدمين لعروضهم في الاستعراض في حالة الاستخفاف الاستبدادي 
وصناعتها؛ الاستعراض الذي يصرّ على أن يقزّم وجود كل البشر المنتجين إلى متفرجين سلبيين فقط؛ خاضعين بهدوء للسلطة الطاغية المستبدة السائدة، يبقى المشهد أبعد من مجرّد الواقع الاجتماعي، وقد جرى تزييفه عمداً بيد المتحكّمين. إنها تكرّس عقلية الجمهور - المتفرّج القانع بهذا الدور، لا الجماهير الفاعلة صاحبة الحركة والتحرّك. إنه وهم وتزييف يحلان مكان هذا الواقع، يقومان على الدمج بين السيطرة والضبط وتشكيل عقلية القطيع، هذا هو الذي يشكل بالتحديد جوهر مجتمع الاستعراض، الذي يكرّس صورة الجمهور المتفرّج المرتبط بعرض سلطة الاستبداد، فلا يلتفت إلى غيره، ويتعصب وينفعل فيه. وعليه، ها هو المستبد "يلتفت إلى جماهير الرّعية المتفرّجين، منهم الطائشون المهللون المسبِّحون بحمده، ومنهم المسحورون المبهوتون كأنهم أموات من حين"، إلا أنه لا ينغّص عليه في هذا المشهد الاستخفافي حينما "يتجلّى في فكره أنَّ خلال الساكتين بعض أفراد عقلاء أمجاد يخاطبونه بالعيون؛ بأنَّ لنا معاشر الأمَّة شؤوناً عمومية وكَّلناك في قضائها على ما نريد ونبغي، لا على ما تريد فتبغي. فإنْ وفَّيت حقَّ الوكالة حُقَّ لك الاحترام، وإن مرّت مكَرْنا وحاقت بك العاقبة، ألا إنَّ مكر الله عظيم"؛ هذه الفئة الواعية الواعدة التي ترفض العرض الاستبدادي ومسايرته، ويبدو أنها تقدّم بوعيها وخطابها وفعلها على إفساد هذا العرض الاستبدادي؛ فيتخذ من تدابيره الطغيانية لمواجهة هذه الحالة الواعية الراشدة التي قد تفسد مشهد الفرجة، وتخرج المتفرجين من حالة الجمهور إلى الحالة الجماهيرية الفاعلة الجامعة.
وهنا يهتدي المستبد إلى سياسات خطيرة وتدبيرات حقيرة لا يعمد إليها أو يعتمد فيها إلا على المتمجدين من الجنود والأعوان، "وعندئذٍ يرجع المستبدُّ إلى نفسه قائلاً: الأعوان... الأعوان، الحَمَلَة السَّدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجيشٍ من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغير هذا الحزم لا يدوم لي مُلْكٌ كيفما كنتُ، بل أبقى أسيراً للعدل معرِّضاً للمناقشة منغِّصاً في نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً جباراً متفرِّداً قهّاراً"، تدابير يصنعها لا تعرف إلا لغة البطش والعدوان؛ ويحاول الأكابر منهم أن يقوموا بعرض جديد من التظاهر والزيف والخداع، ويقدّمون خطاباً مغرّراً مزوّراً، قاصدين به تحقيق أهداف الاستبداد والمستبدين. "إنَّ أكابر رجال عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمّة، فكلُّ ما يتظاهرون به أحياناً من التذمّر والتألّم يقصدون به غشَّ الأمة المسكينة التي يطمعهم في انخداعها وانقيادها لهم علمهم بأنَّ الاستبداد القائم بهم والمستعمر بهمَّتهم قد أعمى أبصارها وبصائرها، وخدَّر أعصابها، فجعلها كالمصاب ببحران العمى، فهي لا ترى غير هول وظلام وشدّة وآلام، فتئنُّ من البلاء، ولا تدري ما هو تداويه، ولا من أين جاءها لتصدَّه".
هذه الفئة تموّه على حال الواقع الأليم وتوالي الأزمات وسياسات الفشل، وتموّه على الأسباب 
والعوامل، وتجعل من ذلك كله حال ابتلاء تخدر بها أعصاب الجمهور، وكأنها من جلسات التنويم المغناطيسي وغسيل المخ الجماعي. وغالباً ما يستند هؤلاء في الاستمرار بصناعة حالة الاستخفاف إلى بعضٍ من رجال الدين المحترفين للتبرير والتزوير من علماء السلاطين "فتواسيها فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين يقولون: يا بؤساء؛ هذا قضاءٌ من السماء لا مردَّ له، فالواجب تلقّيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير، فإن الله غيور، وليكن وِرْدُكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنّا في أوطاننا، واكشف عنا البلاء، أنت حسبنا ونعم الوكيل. ويغرّر الأمة آخرون من المتكبرين بأنهم الأطباء الرحماء المهتمون بمداواة المرض، إنَّما هم يترقَّبون سنوح الفرص، وكلا الفريقين - والله - إما أدنياء جبناء، أو هم خائنون مخادعون، يريدون التثبيط والتلبيد والامتنان على الظالمين".
ومن دلائل أن أولئك الأكابر مغرِّرون مخادعون، يظهرون ما لا يُبطنون، "أنَّهم لا يستصنعون إلا الأسافل الأراذل من الناس، ولا يميلون لغير المتملقين المنافقين من أهل الدين، كما هو شأن صاحبهم المستبدّ الأكبر، ومنها أنَّه قد يوجد فيهم من لا يتنزَّل لقليل الرشوة أو السرقة، ولكنْ؛ ليس فيهم العفيف عن الكثير، وكفى بما يتمتعون من الثروات الطائلة التي لا منبت لها غير المستبيح الفاخر بمشاركة المستبدَّ في امتصاصه دم الأمة، وذلك بأخذهم العطايا الكبيرة، والرواتب الباهظة، التي تعادل أضعاف ما تسمح به الإدارة العادلة لأمثالهم... ومنها أنهم لا يصرفون شيئاً، ولو سراً، من هذا السحت الكثير في سبيل مقاومة الاستبداد الذي يزعمون أنهم أعداؤه، إنما يصرف بعضهم منه شيئاً في الصدقات الطفيفة وبناء المعابد سمعةً ورياءً، وكأنهم يريدون أن يسرقوا أيضاً قلوب الناس بعد سلب أموالهم، ومنها أنَّ أكثرهم مسرفون مبذِّرون، فلا تكفي أحدهم الرواتب المعتدلة التي يمكن أن ينالها أجرة خدمة، لا ثمن ذمّة. ومنها أنه قد يكون أحدهم شحيحاً مقتِّراً في نفقاته؛ بحيث يخلُّ في شرف مقامه، فلا يصرف نصف أو ربع راتبه، مع أنَّه يقبضه زائداً على أجر مثله لأجل حفظ شرف المقامة. والحاصل أنَّ الأكابر حرصاء على أن يبقى الاستبداد مطلقاً لتبقى أيديهم مطلقة في الأموال". إنها حالة فساد وتزوير كبرى يصنعها هؤلاء بمكافأة من المستبد، ينالها هؤلاء ثمن ذمّة، لا أجرة خدمة. إنها شبكات الفساد العاتية أصحابها لا يبغون أن يكون الاستبداد مطلقاً إلا لأن تبقى أيديهم مطلقة في الأموال بالفساد، بكل أشكاله وصنوفه، محميين بالطغيان والاستبداد؛ "الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد".
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".