ورقة حفتر الأخيرة

ورقة حفتر الأخيرة

05 مايو 2020
+ الخط -
لم يكن مفاجئا انقلاب اللواء الليبي المتقاعد المتمرّد، خليفة حفتر، أخيرا، في سلسلة انقلاباته المتتالية. ولكن هذه المرة ضد الطرف الوحيد الذي منحه "شرعيته" المفترضة، وأسبغ عليه من الألقاب والنياشين ما لم يكن يحلم به. وبالنسبة لشخصيةٍ مغامرةٍ تشبعت بالفكر التآمري والمنطق الانقلابي، منذ مشاركتها في انقلاب 1969، لم يكن غريبا على خليفة حفتر أن يتمرّد على بقايا برلمان طبرق، وأن يزيح رئيس هذا البرلمان، عقيلة صالح، ليعلن نفسه حاكما أوحد، من دون أن يرفّ له جفن، على الرغم من محاولات التلطيف اللاحقة التي سعى إلى نشرها، عبر تصريحات الناطق باسمه أحمد المسماري الذي زعم أن القرار يتعلق برفض اتفاق الصخيرات وما ترتب عنه فحسب.
يدرك كل مراقب موضوعي أن خليفة حفتر لم يعترف يوما بالاتفاقات السياسية، ولا بمخرجات الحوار بين الأطراف الليبية، وفي مقدمتها اتفاق الصخيرات، وإلا ما كانت الحرب الأهلية لتستمر كل هذه المدة بعد الاتفاق الذي تم توقيعه في ديسمبر/ كانون الأول 2015، فمنذ ذلك الحين واصلت مليشيات خليفة حفتر حربها، غير عابئة بالوضع الإنساني. حتى في زمن الوباء وانتشار جائحة كورونا، ظلت مليشياته تقصف العاصمة طرابلس، وتحاول التقدّم نحو مواقع جديدة، لولا التحولات الميدانية المتسارعة التي طرأت على المشهد العسكري، وأجبرته على تغيير تكتيكاته، وبإشارة من كفيله الإماراتي الذي ارتأى أن المرحلة لم تعد تسير في مصلحة حفتر ومليشياته.
كانت الهزائم المتتالية التي لحقت بقوات اللواء المتقاعد نذيرا لتغير المواقف السياسية والدولية، فالجميع يدرك أن الحرب في النهاية امتداد للسياسة بأشكال أخرى، وأن الانتصارات الميدانية
 ستتم ترجمتها إلى مواقف سياسية، وإلى فرض توافقات جديدة للخروج من الأزمة، وهو ما لا يمكن لشخصٍ مثل حفتر أن يقبل به، فهو أساسا من إفرازات الأزمة ومن أعراضها، وأي تقدم نحو الحل لن يتحقق إلا بإبعاده، أو على الأقل تحجيم حضوره مقابل صعود الوجوه السياسية التي ستتفاوض من أجل المرحلة الانتقالية. وفي هذه الحالة، سيكون رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، الوجه الأكثر حظوظا لتمثيل جهات الشرق الليبي في أي اتفاقاتٍ جديدة يتم التوصل إليها، خطوة لتطبيع الوضع والعودة نحو السلم الأهلي.
تحرّك حفتر أولا ضد حليفه رئيس برلمان طبرق، وأقصاه، لينفرد بسلطة عرجاء على جزء من التراب الليبي، باعتباره حاكما أوحد نال تفويضا وهميا من شعبٍ نصفه يعاني ويلات الحرب والنصف الآخر تحت الحجْر الصحي بفعل جائحة كورونا. بالطبع، لن يهتم حفتر كثيرا بمدى مصداقية التفويض الشعبي، لأن الذين وضعوا له هذا المخطط أرادوا استباق التحولات المقبلة في ظل تواتر الأخبار عن مبادراتٍ سياسيةٍ تقدّمت بها أطراف ليبية مختلفة، ومنها مبادرة عقيلة صالح التي نالت تأييد أطراف دولية مؤثرة، ترغب في إيقاف نزيف الدم الليبي. ولم يكن مستغربا أن تأتي ردود الأفعال الدولية، سواء من الأمم المتحدة أو الاتحاد الأروبي أو حتى من الولايات المتحدة وروسيا، رافضة خطوة خليفة حفتر المتعلقة بإعلانه إسقاط اتفاق الصخيرات السياسي، وتعميد نفسه حاكما مطلقا من دون الاستناد إلى أي وثيقة دستورية، أو أي شرعية قانونية أو شعبية.
هذا الانقلاب الجديد في سلسلة انقلابات حفتر المتتالية، منذ انقلابه التلفزيوني سنة 2014، يأتي في سياق معاكس للأحداث، وهي خطوة أسقطت ورقة التوت الأخيرة عن اللواء المتقاعد الذي قدم نفسه في سنوات انقلابه الأولى، باعتباره مفوضا من شقٍّ في البرلمان لمحاربة الإرهاب وجماعات العنف. ومع تقدمه التدريجي في مناطق الشرق الليبي، تصوّرت بعض القوى الدولية أن من الممكن المراهنة عليه كقوة جديدة قادرة على إعادة توحيد البلاد، قبل أن تكتشف وبصورة تدريجية أن الرجل ليس سوى أحد أمراء الحرب المستفيدين من دعم مجموعاتٍ من المرتزقة وأطراف إقليمية تموله، لا تسعى إلى حل النزاع الليبي بقدر ما تحرص على تدمير مقومات وجود الدولة الليبية، فضلا عن استمرارها. وما يثير القلق في الانقلاب أخيرا أن الأطراف الداعمة لخليفة حفتر، وتحديدا الإمارات، هي من الدول ذات النزعة التدميرية، والتي ترغب دوما في دعم النزعات الانفصالية وتشطير الدول، وهو أمر يمكن إدراكه بيُسر من متابعة السلوك السياسي والعسكري للإمارات في اليمن، حيث احتلت بعض جزره، وتدعم القوى الانفصالية فيه، وهو ما يدفع إلى التحذير من أن الورقة الأخيرة التي يمكن أن يعمد إليها حفتر هي السعي نحو تشطير ليبيا والمسّ بوحدتها الترابية، خصوصا في ظل رفضه الاتفاقات السياسية، وانقلابه على الجناح السياسي في منطقته، أعني برلمان طبرق، ومن الأكيد أن القوى الوطنية في ليبيا ستكون أكثر وعيا وإدراكا لخطورة المغامرات الانقلابية، وستسعى إلى إفشالها عبر الحوار الداخلي، وصولا إلى استعادة الدولة الليبية الموحدة ترابا، والديمقراطية حكما، والتعددية سياسة وفكرا.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.