حضرات المُنتِجين

حضرات المُنتِجين

05 مايو 2020
+ الخط -

لستُ من متابعي المسلسلات العربيّة بشكل عام، فأنا بصراحة أفضّل عليها الناجحَ من المسلسلات الأجنبية التي تحترم عقل المشاهد وحسّه الجماليّ. وإلا، فالأفلام السينمائية الحديثة، وإلا، فالكلاسيكيّة القديمة بالأسود والأبيض، عربيّة وأجنبيّة على السَّواء.
لكني، مثل كثيرين غيري اضطررنا هذا العام، ونحن جميعا تحت حكم كورونا الجائر، إلى متابعة بدايات بعض المسلسلات التي بدت عناوينها واعدة، ومن بينها "بالقلب"،  "الساحر"، "العودة"، "بردانة أنا 2"، "هوس"، "حرملك"، .. إلخ، ومعظمها مسلسلاتٌ لبنانيةٌ وسوريةٌ أو من إنتاج مشترك، ناهيك عن المسلسلات التركية المدبلجة التي تغرق شاشاتِ بعض الفضائيات، وكلّها من النوع "البكّاء"، "اللطّام"، الذي يدوم مواسم طويلة لا تنتهي إلا بطلوع الروح.
وفيما أنا أشاهد بعض تلك المسلسلات على اختلافها، كنتُ لا أني أغالط كاتبَ (أو كتّاب) السيناريو  وألومه على كيفية اختيار شخصيّاته، متسائلةً عن سرّ تشكيلها وبنائها لتأتي مسطّحةً وتافهةً على هذه الشاكلة، ناطقةً بتلك الحوارات المطّاطة التي لا تقول شيئا مفيدا، خائضةً في تلك الأحداث المنقولة في معظمها عن أفلام أجنبية، والمموّهة بخلطها ببعضها لكي تأتي منحولة غير واضحة المصدر. في خضمّ هذا كلّه، ثمة من يجرؤ/تجرؤ على وضع اسمه/ اسمها جليّا تحت عبارة "قصة وسيناريو وحوار"...
ولدى التفكير في "الموهبة" القادرة على هذا القدر من التفاهة والسوء، لا بدّ من استحضار مقوّمات تلك السيناريوهات التي تعجب "المنتجين"، وهم برأيي المسؤولون الأوائل عن التسطيح المتزايد لمسلسلاتنا الدرامية الكثيرة.
على صعيد ما شاهدتُه، أقلّه في الموسم الأخير، لدينا أبطالٌ لا يشبهون عالمنا في أي شيء، يحيون في ديكوراتٍ مكوّنةٍ من قصور وفلل خلابة، بعيدين عن واقعنا، أو أنهم أبناء بلاد أخرى وثقافة غريبة نجهل عنها كل شيء. فلا الهمّ همّنا، ولا الناس ناسٌ بنفسياتٍ ونوازع ومشاعر  وتناقضات، ولا اللغة وسيلة تواصل وتعبير، ولا ... ولا ...  دمى تتحرّك أمامنا من دون أي عمق إنساني، مسطّحة كالأوراق التي كُتبت عليها، مع هفواتٍ مخيفةٍ في بناء النص الدرامي، وفي استجلاب أحداث وشخصيات مساعِدة تسقط من الجوّ على رؤوسنا، حتى ليبدو المسلسلُ قماشةً مهلهلةً، تمّ شدّها ومطّها من جميع الجهات، لكي تطابق قياسا معيّنا (30 أو 60 حلقة)، يرى المنتجون والأقنية أنها أفضل مردودية وأكثر كسبا.
ومع ذلك، وعلى الرغم من يأسي ويأس كثيرين معي، واقتناعي واقتناعهم بأن الكلام التالي لن يُفضي إلى نتيجة، فلا بد من قوله وترداده، إذ لعل وعسى:
يا سادة، أيها المنتجون الكرام، التلفزيون ليس بيت أبيكم، إنه أداة تثقيفٍ ومعرفةٍ وتسلية، ولا تظنوا بهذا أننا نطالبكم، معاذ الله، بتحويله أداة للتوعية وتنوير العقول (فهذا قد يستفزّ  سلطة أو يسيء إلى نظام). لا. نحن فقط نطالبكم بحدّ أدى من مُنتَجٍ يحترم عقولنا ومشاعرنا. نحن، أي الجمهور المسكين، لا نطالب بأكثر من سلوى مقنعةٍ في حدّ أدنى، تحترم معايير المنطق والواقع والحسّ الفني والجماليّ. ولا تسيئوا فهمًا إذا كنا هنا نتحدّث عن الأنس والإمتاع، فأن يسلّينا عملٌ دراميّ فمعناه أنه خاطب عقولنا ودغدغ قلوبنا وأمتع أحاسيسنا، وهذا للأسف ليس في متناول الأعمال "العظيمة" التي تُمطروننا بها كل عام.
أيها المنتج الكبير، أنت توظّف أموالا في أعمالٍ دراميّةٍ ستطبع اسمَكَ في ذاكرتنا وتشكّل جزءًا مُهمًّا من ذاكرة أبنائنا، لو أنتَ اقتنعتَ أن بإمكانك أن تجمع بين الجودة والنجاح الجماهيريّ. أجل، هذا ممكن، صدّقني، وليس بذلك التعقيد. الجأ إلى كتّاب سيناريو حقيقيّين. تبنّى أعمالا أدبيّة جيّدة، فالروايات هي اليوم من أفضل ما ينتجه العالمُ العربي. اذهب إلى الاختصاصيين في مجالاتهم، مصمّمي الديكور، الأزياء، المصوّرين ... تعاطى مع أهل السينما، لمَ لا، وادعهم إلى العمل في التلفزيون، لأنهم أبناء خبرة وعلم. وختامًا، لا تحسبنّ أن الاستنجاد بالتاريخ العظيم وبذخ المال على تصوير المعارك أو على فخامة الأزياء وكثرة الكومبارس، هي السبيل إلى ذلك. الأمر أبسط من هذا بكثير، سيدي المنتج، إذ تكفي موهبة حقيقية ومخيّلة خصبة ووعي صادق، وننتهي أخيرًا من المسلسلات التافهة وما تذرّ في الأعين من رماد.

دلالات

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"