عندما يروننا

عندما يروننا

04 مايو 2020

نجوم "عندما يروننا" على مسرح باراماونت في هوليوود (11/8/2019/Getty)

+ الخط -
احتفلت أوبرا وينفري، في حلقة خاصة بفريق عمل مسلسل "عندما يروننا"، المستند إلى قصة حقيقية انتشرت على نطاق واسع في نهاية الثمانينيات، وكشفت الوجه العنصري البغيض للنظام القضائي في أميركا. قصة عدّاءة سنترال بارك، المرأة البيضاء التي شارفت على الموت، حين تعرّضت في أثناء ممارسة رياضة الركض في منتزه سنترال باراك للضرب المبرّح والاغتصاب بوحشية، في وقت تصادف مع وجود جمهرة من شبان ينتمون إلى الأقليات من السود والمكسيكيين والمسلمين. لفقت الشرطة التهمة وألصقتها بخمسة من المراهقين الأبرياء. اعترف هؤلاء الفتية مكرَهين بجريمةٍ بشعة هزّت الرأي العام آنذاك. وعلى الرغم من ضعف الأدلة المادية، وركاكة شهادات الاعتراف المتلفزة والمفبركة، إلا أن فساد النظام القضائي وعنصريته أديا إلى زجهم في السجون، وسرقة أجمل أيام حياتهم، وانتزاعهم من دفء بيوتهم، والسطو على طموحاتهم وأحلامهم، والإجهاز على مستقبلهم من دون رأفة. 
استضافت وينفري كذلك المبدعة إيفا ديفوري، معدّة العمل ومخرجته ومنتجته، تلك الفنانة مرهفة الحس، الصادقة الحقيقية التي كانت تحاول في أثناء الحوار، ومن دون نجاح ضبط دموعها، وهي تتحدّث بكل الشغف والحميمية الممكنة عن حيثيات العمل الاستثنائي الصادم بكل المقاييس. وجمعت أوبرا، في الحلقة ذاتها، بين الممثلين وأبطال القصة الحقيقيين، وقد مضى بهؤلاء العمر، وبلغوا منتصف الخمسين، غير أن تداعيات التجربة المؤلمة ظلت واضحة في أرواحهم وملامحهم.
حصل المسلسل على ترشيحاتٍ عديدة لجوائز فنية مختلفة. قدم طاقم الممثلين، ومعظمهم من الأسماء غير المعروفة التي تخوض التجربة الدرامية للمرة الأولى، أدوارهم بكل براعة واقتدار وحسٍّ عالٍ وقدرة على الإقناع، بحيث تجد نفسك، أنت المتلقي، منخرطاً تماماً تتناوبك مشاعر التعاطف والغضب والسخط. تحدّث كل منهم في اللقاء مع أوبرا عن الأثر النفسي العميق الذي أحدثه العمل في نفوسهم، وكذلك عن قصص تواصلهم مع الشخصيات الحقيقية، ومحاولاتهم المخلصة لمقاربة آلامهم وعذاباتهم درامياً، وقد حصد المسلسل، بحسب "نتفلكس" أعلى نسبة مشاهدة في تاريخها.
وعلى الرغم من حجم السوداوية التي ينطوي عليها فضاء العمل، والإحساس بالقهر الذي يخلفه في نفس المتلقي، إلا أن قوة النص ومستوى الإخراج الرفيع، وبراعة طاقم التمثيل، إضافة إلى البُعد الواقعي في الحكاية، ضاعف الظلم من قوة تأثيرها في النفس الرافضة، بشكل غريزي. ستتورّط بكل حواسّك في تفاصيل المسلسل، بحلقاته الأربع المكثفة منذ لحظة القبض على المراهقين الصغار، وهم الأقرب إلى الأطفال، من حيث البنية والسلوك والبراءة، وإخضاعهم لأبشع أشكال الترويع، ومن ثم مجريات المحاكمات التي أجهزت على أي بارقة أمل بتحقيق العدل، وهو بعيد المنال بالنسبة إلى الفقراء المهمشين، غير القادرين على توكيل محامين أكفياء يمتلكون القدرة على المقارعة والدفاع الشرس. التزمت المخرجة والكاتبة الإطار العام الموثق للمأساة، غير أنها تمكنت من شقّ قنوات درامية فرعية، تسللت فيها إلى القصص الشخصية لكل منهم منفرداً، فأضاءت ظروف حياته الأسرية، وعرّفتنا إلى العائلات وظروف معيشتها وتعاطيها مع مأساة صغيرها.
شكّل المسلسل، كما يجمع كثيرون، صدمة حقيقية لكل من تابعه، وفرح بالنهاية، بحصول الصغار الذين لم يعودوا صغاراً على حكم البراءة، وباسترجاعهم حقوقهم المدنية، وبحصولهم على التعويض المادي، ليس بفعل يقظة ضمير حكومية رسمية، بل بسبب اعتراف الجاني الحقيقي بفعلته، وتطابق الأدلة المادية في مسرح الجريمة مع أقواله.
تفاصيل مذهلة يتضمنها مسلسل "عندما يروننا"، خشيت المخرجة من سردها بالتفصيل القبيح. عمل إبداعي مفرح، على الرغم من مقدار الألم والظلم، وهو بمثابة تعويض جمالي عمّا يجري على ساحة الدراما الرمضانية لعامنا هذا من هراء، وتلك حكاية أخرى.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.