أفكار فوضوية في اللغة

أفكار فوضوية في اللغة

30 مايو 2020
+ الخط -
يعرّف معجم الوسيط ومعجم المعاني الجامع مفردة "العيد" بالتالي: "الجمع: أعياد، العيد: ما يعود من هم أو مرض أو شوق أو نحوه". ويعرّفه المعجم الرائد: "كل يوم يحتفل به بتذكار أحد الصالحين أو أحد الأبطال أو حدث وطني أو حادثة هامة". وتعرّفه معظم معاجم العربية بتعريفاتٍ متعلقة بالتذكار بطرق مختلفة، بينما في معجم لسان العرب: "كل يوم فيه جمع، واشتقاقه من: عاد يعود"! وبعيدا عن معنى العيد في الذاكرة الجمعية، والذي يحيل دائما إلى اللمّة والجمعة والفرح والبهجة، فإن المفردة، بحد ذاتها، مشتقة من الإعادة، من استعادة هذا اليوم دائما. وتمنّي الاستعادة لا يكون إلا في حالات الفرح، لا أحد يتمنّى استعادة أيام الحزن أو الغم أو الهم أو القهر، نحن نرغب باستعادة ما أفرحنا. العيد هو محاولة استرجاع ذكرى فرح ما. وفي كل عام، ثمّة من يصنع فرحا جديدا يحاول استعادته في الأعوام المقبلة بالتوقيت نفسه، حتى يصبح عادةً مستعادة، هذا تفسيري أنا الشخصي للمفردة. من قال إنه لا يحق لنا أن نفسر مفرداتنا كما نشاء؟
ولكن ماذا لو جاءت هذه الذكرى المستعادة في وقت مظلم، وفي ظرف قاهر كالذي تعيشه البشرية هذا العام، أو كالذي يعيشه العرب من أعوام، والسوريون على وجه الخصوص؟ كيف سنتمنى أن يستعاد في الأعوام المقبلة؟ أظن أن ثمّة منطقة في النفس البشرية تحيل دائما نحو الأمل، هي ما يبقينا على قيد الحياة على الرغم من كل ما قد نعانيه ونمر به، وأظن أن هذه الإحالة هي السبب الأول في كل تغيير في الحياة، هي السبب أيضا في فكرة التضحية، أن يضحّي أحد ما إيمانا بفكرة أو هدف، هو لأنه يأمل أن تضحيته سوف تكون خطوةً نحو تحقيق ما يؤمن به. هذه النزعة الشخصية للأمل هي ما يجعل من غريزة البقاء الأقوى، القوة التي تنحّي اليأس لتترك مكانه للفرج، النزعة الجمعية للأمل هي ما يمكن أن نسميه عيدا.
وبمناسبة الحديث في اللغة، لطالما لفتتني مفردة "السكن"، ماذا يعني أنني أسكن في المكان الفلاني؟ في المعاجم: سكن الدار أي قطن فيها واستقر، غير أن للغة ينابيع كثيرة، السكن، تحيل إلى السكينة، والسكينة هي الطمأنينة والأمان والسلام والهدوء النفسي، بالنسبة لي شخصيا، وأكاد أكون متيقنةً من أن ذلك شأن الغالبية العظمى من البشر، هذا يتحقّق في البيت، لا أشعر بالأمان إلا في بيتي، ولا أشعر بالطمأنينة إلا فيه، في معظم الأوقات، فما بالكم في أوقاتٍ كالتي تمرّ على البشر حاليا، حيث البيت هو الأمان، بالمعنى الحرفي للكلمة، لا بالمعنى المجازي فقط! حتى مفردة البيت هي مثلا في معجم المعاجم "العيال والأسرة والأهل"، حيث الطمأنينة والسلام، وحيث اللمّة والفرح، والتي هي ليست سوى "العيد"، وبيت القصيد مثلا هو أحسن أبيات القصيدة، وبيت الشعر هو الموزون، كل تلك التفسيرات والمعاني تحيل إلى ما هو جميل وإيجابي في الذاكرة الجمعية التي تستعيد، في الأوقات الصعبة سرديات الأمان والطمأنينة، فيصبح العيد والبيت والسكن والأهل والأصدقاء مرادفاتٍ لمعنى واحد فقط، هو الأمان.
تحدث علماء النفس، أخيرا، عن ظاهرة اسمها "متلازمة الكوخ"، وهي قديمة، ظهر الحديث عنها منذ عام 1900، عندما كان الصيادون ومن ينقلون الذهب يخشون من الخروج من أكواخهم التي كانوا يقضون فيها زمنا طويلا. هذا حالنا اليوم مع فيروس كورونا. نحن جميعا اليوم نشتكي من السجن المفروض علينا في منازلنا، لكننا ما إن نفكر بالخروج حتى نصاب بالاضطراب، والخشية مما قد يحدث لنا خارج البيت/ الكوخ، فنستغني عن الخروج ونؤجله إلى وقتٍ آخر، إذ ندرك جيدا أن أماننا هو في محيطنا الصغير، البيت والعائلة والمقرّبين.
شيء ما يجعلني أؤمن بأن اللغة هي بيت أيضا، اللغة التي تخرج بها أفكاري المتضاربة، كما هي الآن، التي أستطيع أن أصوغ بها مخاوفي وهواجسي التي تساعدني على التخلص من اضطرابي، حين ينحصر تركيزي في مراقبة عوارض جسدي كلما خرجت من البيت لسببٍ ما، أكتب عن مخاوفي فأسكن وأستكين وأطمئن، إذ ثمّة من يتلقى ما أسترسل بالتعبير عنه، ثم يشاركني بمخاوفه باللغة نفسها، أليس هذا احتضاناً من نوع ما؟ وهل البيت غير حضن يمنح الأمان والسلام والطمأنينة.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.