المقاومة بالحيلة

المقاومة بالحيلة

29 مايو 2020
+ الخط -
في بدايات الانتفاضة الفلسطينية الثانية، جاء خبر عاجل، بين أخبار اقتحامات القوات الإسرائيلية مدن الضفة الغربية المحتلة وقراها، عن مهاجمة عساكر الاحتلال قريتنا، النبي صالح (20 كلم شمال غرب رام الله)، وجاء في نص الخبر أن قوات إسرائيلية اقتحمتها واعتقلت شباناً منها. هرعت مباشرة إلى الهاتف للاتصال بشقيقي الذي لم يردّ إلا بعد محاولات استنزفت أعصابي. سألته: أين أنت؟ لماذا لم تجب على الهاتف بسرعة؟ سمعت أن الإسرائيلي اقتحم البلد، هل أنتم بخير؟ ضحك شقيقي ببرودة وقال: "طوّل بالك ما في شيء"، تأخرت بالرد لأني كنت نائماً. صرخت، كيف تنام والدنيا مقلوبة؟ أجاب أخي بصوت نصف نائم، صار النوم يا عزيزي ضرباً من المقاومة، لقد توعّدنا شارون (كان رئيس وزراء الاحتلال آنذاك) بعدم النوم، لذلك أنام بملء جفوني تحدياً لشارون وجنوده.
في الفترة ذاتها، اقتحم جنود الاحتلال القرية ذات مساء، واحتلوا منزلاً، واتخذوا من سطحه نقطة مراقبة لملاحقة تحركات نشطاء الانتفاضة، فما كان من شبان القرية إلا المرابطة في مدخل المنزل والسهر مع شرب الشاي ولعب الورق وتدخين الأرجيلة، من دون احتكاك ظاهر بالجنود الذين ظلوا متيقظين، متأهبين، خائفين، ليلتين، بينما يستمتع الشباب بسهرتهم، وانتهت المواجهة الهادئة بانسحاب الجنود بعد أن أتعبهم السهر، واستنزفت أعصابَهم ضحكات الشباب. تذكرت حيلات المقاومة هذه، وقد مرَّ عليها نحو عقدين، في أثناء قراءة كتاب "المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم" للأميركي جيمس سكوت، وصدرت طبعته الثانية مطلع العام الجاري عن دار الساقي، بترجمة إبراهيم العريس ومخايل خوري.
يُقدم مؤلف الكتاب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ييل الأميركية، مناقشة للعبة الكره الغامض بين القوي ومن لا قوة لديه، وما هو مخبأ أو معلن في خطاب كل منهما. يقول: "تحمل المواجهة بين القويّ ومن لا قوّة لديه قدراً من الخداع، فالفلاحون والأقنان ليسوا أحراراً في أن يقولوا آراءهم في حضور السلطة، إنهم يخلقون خطاباً سرّياً يمثل نقد السلطة، ويجري تداوله من وراء ظهرها. أما القويّ، فيؤسّس حواراً خاصاً به بشأن ممارسات حكمه وأهدافه، وهو حوارٌ لا يُعلن على الملأ". وبالكشف عن خيوط الجدلية بين تمويه وغموض يمارسهما الضعيف، ورقابة وسيطرة يمارسهما القوي، يعرض الكاتب استراتيجيات اللاعبين وتكتيكاتهم في المسرحين، المخفي والمكشوف، وأهمها تنويعة عريضة من أشكال مقاومةٍ تحتيةٍ للجماعات الخاضعة، لا تجرؤ على إعلان ماهيتها وأدواتها بوضوح، ولكنها توفر للجماعة المُسْتعبدة حيلةً تساعدها على البقاء، وكبح جماح الغضب، وضبط الاندفاع نحو العنف الجسدي. ويصف سكوت السياسة التحتية، في ميدان النضال السياسي الهادئ الذي لا يَقتحم بقوة، بل يأتي كالأشعة تحت الحمراء، وخياراً تكتيكياً نابعاً من وعي حذر لتوازن القوى. ويقول الكاتب إن لكل مقاومة مكشوفة شقيق هو السياسة التحتية، ينشد الأهداف الاستراتيجية ذاتها، ويفضّل البقاء مستوراً في مواجهة خصمٍ من المرجح أن يكسب أي مصادمة مكشوفة. ويصف سكوت السياسة التحتية باللبنة البانية لعمل سياسي متقن لا يمكن أن يوجد من دونها، فالسياسة التحتية، بوصف مؤلف الكتاب، ترسانة دفاع في العمق عمّن لا سلطة لهم. ويورد الكاتب صوراً أخرى للمقاومة بالتورية، يعبّر عنها المضطهدون في الأغاني والحكايات الشعبية، ومظاهر الاحتفال والكرنفالات، وفي الإشاعات والخراريف الأسطورية التي لا يمكن القوي القبض على معانيها الخفية، ولكنها تمنح الضعيف قوة كافية للإمساك بالحكمة.
يُدرج عالم الاجتماع الأميركي، جيمس سكوت، في كتابه، تجارب تاريخية، وأحداثاً استعمارية صارت في كوريا وماليزيا والجزائر وفيتنام، وغيرها، وأخرى من تاريخي الإقطاع والعبودية، ليكشف من خلالها كيف كان للشعوب المُستعبدة والمُضطهدة والمُسْتَعمرة حِيلات مكشوفة وأخرى تحتية وغامضة لمقاومة الإقطاع والاستبداد والاستعمار، النوم والتظاهر باللامبالاة من بينها، ولم يكن منها قَطّ الاستسلام، مهما بلغت سطوة المُسيطر أو جبروته.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.