ميرال الطحاوي والسيدة إميليا

ميرال الطحاوي والسيدة إميليا

28 مايو 2020
+ الخط -
... وأنا أتابع رسم شخصية إميليا في رواية ميرال الطحاوي "بروكلين هايتس"، تأملت كيف يذهب المؤلف إلى شخصياته، أو كيف يقع عليها أو تقع عليه، أو، إن صح التعبير، كيف تذهب الشخصيات إلى المؤلف، هل للمؤلف حيلة في دفعها عنه، حتى ولو دفعها عنه عنوة، هل سيسلم من ملاحقة أطيافها بقية عمره؟
كاتبة مغتربة تبحث بالقلب والعين أيضاً عن ما يسد جوع غربتها من ألم الناس وشتاتهم، اختارت الهجرة سكناً ومزاجاً ثقافياً وعملاً وتربيةً لابن وحيد في جزيرة عامرة بالبشر من كل عرق ولون ولغة، ما الذي جعلها تختار إميليا سندا للروح؟ هل لأن إميليا متشبثة ببقية أحلامها، شرقية هي الأخرى، إميليا روسية الأصل، وقد هاجرت إلى أميركا من دون أن تعرف كلمة واحدة إنكليزية، واستطاعت أن تتحدّث بها من خلال راديو ترانزستور فقط، هل إميليا هي نقيض ميرال الكاتبة، أم هو الإيناس بشخصية تقول ما تريد قوله بلا احتراز؟
يعشق زوج إميليا الطبخ وأعمال البيت، ولا يهوى الخروج مطلقاً. ويحب أن يطبخ وهو يسمع الموسيقى الكلاسيكية. يحب الهدوء المزعج، ولا يعطي لإميليا فرصة أن تفتح فمها. في كلمات معدودات بلا إطناب، أو ثرثرة، ولا عضلات لغوية نافرة أو متاهات غامضة، من نوعية المستغرب من مخلفات القراءة ودهونها الظاهرة تحت جلد الكتابة، استطاعت ميرال أن تقول الشخصية، اميليا، بكل مستغلقاتها، وتركت لحصافة القارئ المدرب تكملة الصورة.
قالت ميرال فقط الجزء الظاهر فوق جبل الثلج من الشخصية، وتركت البقية للفطنة والاستدراك والدهشة. لا بلاغة هنا ولا تبسيط مخلاً ولا استغلاقاً، بل تحديدا ونباهة في الوصول إلى منابع الشخصية من غير ادّعاء علم أو تفلسف أو تحليلات مربكة، تكون عثرة أمام الكتابة. لذا نص ميرال الطحاوى مقروء، وهذا نقيض صناعة الإرباك في الكتابة، إلا إن كان الإرباك يعد من ضرورات النص، وهذا شيءٌ آخر محمود في مكانه.
الكتابة نقيض التعتعة، التعتعة إفلاس، وهي إفلاس روحي يسبق الفكري أهمية، في أمر الكتابة خاصة.
ميرال تصل إلى ما تريده، في الكتابة، ببساطة، وهذه أول شروط "سهام الموهبة" وأهمها، وهي سجية أو قل ملكة أو قل "خميرة الروح في الكاتب التي لا تقلد ولا تستنسخ ولا تتشابه"، أو قل حتى هدية من الله، أو قل حتى إنها "بركة"، مع الاعتذار لكل معامل الأسس النفسية للإبداع في شرق العالم وغربه، وعلى من كان قليل البركة "في الكتابة" أن يبحث له عن عمل آخر يسند له روحه بقية عمره بعيداً عن التعب والصداع.
الموهبة تقي الكاتب من عثرات السرد والصداع أيضاً، وهي الفرشاة أيضاً، ولم لا؟ الموهبة هي التي تنوب عن العين، في حالاتٍ كثيرة، في الشوف والرؤية، حتى وإن شافت العين كثيراً، الموهبة هي التي تنوب عنا في الشوف، لا من أجل الكاتب أو الكاتبة، بل من أجل حل عقدة الكتابة نفسها "أما عقد الكاتب أو الكاتبة فلها رب".
نحن أمام كاتبةٍ تهرب من هوس تداخل النصوص، كي تقول ما تراه من إرباك. انتقلت من مكان لغتها الأولى ونصوصها الأولى، ومسرح غنائها اللغوي والحكائي الأول، ولكن خيط الموهبة ما زال قوياً وقادراً على الإمساك بما تؤمن به، وهي ترى، بحدّة الفهم والعين، من غير "غناء"، كما اعتادت في بداياتها، هي في مكانٍ آخر بعيدة عن "مجمع أسرار كتاباتها الأولى"، مكان لا تمتلك فيه ميرال، لا طرف موّال ولا سند حكاية من جدّة ولا طرف "عدودة قديمة"، كي تجبر خاطر النص.
لا تملك ميرال سوى الحيرة والموهبة وحرية الاختيار لمصائر أبطالها دونما تدخل أو إرباك ذهني زائد على النص والشخصية. نعم هي في حيرة تخصّها ومن صنعها أيضاً، ومن "بنات طموحها"، وهذا ليس مهما في قراءة كتاباتها الأخيرة بالمرة. أما إميليا (موضوع المقال)، هل هي الرماد؟ رماد الروح حينما يستهلكك الغرب وأنت فيه "أو يستهلكنا جميعا حتى من داخل قرانا"، حتي آخر نفس، فتصير الشخصية خفيفة على العالم، وهكذا تجلس إميليا على كرسي وحيدةً، وتدخل القاعات وتتكلم كيفما شاءت، وحينما تذهب إلى البيت تجد الموسيقى والصمت المخيف أيضاً، ورجلاً شبه وحيد يجيد الطبخ، فما أشبه هذا الصمت بعالمنا اليوم، مع فارق الرعب والخوف من الموت أو انتظاره.

دلالات