رسائل ''أم هارون''

رسائل ''أم هارون''

28 مايو 2020
+ الخط -
لا يستحق مسلسل ''أم هارون'' كل الضجة التي واكبت عرضه طوال شهر رمضان، على الأقل من الناحية الفنية، ففضلا عن تواضع إخراجه، فهو مليء بتمطيطات لم يكن هناك أي داعٍ لها، وخصوصا في ما يتعلق بالتحولات غير المقنعة في أطوار العلاقات العاطفية، هذا علاوة على قصور واضح في استثمار إمكانات بعض الممثلين، وتواضع المؤثرات المشهدية التي جعلت المسلسل بعيدا عن النقلة التي عرفتها الدراما العربية خلال العقدين الأخيرين. غير أن الجوانب الفنية قد لا تصبح ذات أهمية في ظل الجدل الذي واكب عرض المسلسل، على خلفية تضمّنه دعوة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو ما يشكل حافزا لقراءة المسلسل من زاوية أخرى، بغاية الوقوف على بعض الرسائل التي تضمنها.
يتناول المسلسل تاريخ اليهود في الخليج العربي في أربعينيات القرن الماضي، من خلال أسر يهودية تعيش في بلدة ساحلية متخيَّلة (الفريج). وتمثل أم هارون، المرأة اليهودية التي أسلمت، الشخصية الرئيسية في المسلسل، فحولها تتشكل خيوط الأحداث، وتتقاطع عندها، بشكل أو بآخر، مصائر الشخصيات الأخرى على اختلاف انتماءاتها الدينية.
تُشّكل أسرة الحاخام داود عيّنة من الأسر اليهودية البسيطة التي عاشت في الخليج العربي. ومن خلال وقائع المسلسل، تبدو الأسرة منقسمةً بشأن الأحداث المتسارعة في فلسطين (1948). فالحاخام/ الأب يرمز إلى قطاع من العرب اليهود الذين لم يكونوا مستعدين للانسياق خلف طروحات الحركة الصهيونية، بقدر ما كانوا منشغلين بتأمين وضعهم المعيشي والاجتماعي. ولذلك لم يكن داود، في البداية، ينظر بعين الرضا لعلاقة صهره، عزرا، وابنته الكبرى، رفقة، بالأوساط الصهيونية، مخافة أن يؤثر ذلك على حياة أسرته في ''الفريج''. بيد أن موقفه سيتغير تدريجيا مع تواتر الأنباء القادمة من فلسطين، واتساع الفجوة بينه وبين الأهالي، سيما بعد أن صارت علاقة ابنته راحيل بمحمد عبئا ثقيلا ينغّص عليه حياته. وإذا كان 'عزرا' ورفقة يرمزان إلى القاعدة الاجتماعية للعرب اليهود في الخليج، والتي استثمرتها الحركة الصهيونية جيدا، فإن الأم مسعودة والابنة الصغرى راحيل ترمزان لأقلية صغيرة من هؤلاء اليهود التي وجدت نفسها محشورة بين الحركة الصهيونية التي رأت فيها مخزونا ديموغرافيا وسياسيا مهما بالنسبة لإسرائيل، والمجتمعات العربية التي بدت، بسبب تركيبتها التقليدية، عاجزةً عن الفصل بين الصهيونية واليهودية.
في السياق ذاته، تقدّم لنا علاقة الحب المستحيلة بين محمد المسلم وراحيل اليهودية أفقا آخر لاستنطاق المسلسل وتأويل رسائله. هل يعني إخفاقهما في الحفاظ على علاقتهما، والنأيِ بها عن الضغوط التي تعرّضا لها أن التعايشَ بينهما، أو بالأحرى بين طرفي الصراع، يكاد يكون مستحيلا في ظل سطوة التطرف ورفض الآخر داخل كل من المعسكرين؟ هل تتجاوزُ الهوة النفسية العميقة بين الطرفين المأساة الفلسطينية نحو إشكالات دينية وثقافية وتاريخية مركّبة، ليس في وسع أي قصة حب أن تصمد أمامها مهما بلغت ضراوتُها؟
من ناحية أخرى، حاول المشرفون على المسلسل الاعتماد على الإيحاء الخاطف لتمرير رسائل تستمد دلالاتها من الراهن العربي، مثالان على ذلك: في حوار بين عزرا وأحد المسؤولين البريطانيين يؤكد الأخير، ضمنا، على شرعية ما يقوم به 'عزرا، لأن اليهود أصبحوا جزءا من ثقافات المنطقة. ألا يعني ذلك دعوة ضمنية للقبول الثقافي بإسرائيل في المنطقة وتجاهلِ الحقوق الفلسطينية المشروعة؟
في الحلقة 16 (الدقيقة 21) يمرّر المسلسل رسالة تفوح منها رائحة الثورة المضادة، ففي سمرٍ ليليٍّ لا يفتأ الجميع يثني على دور الجيوش العربية واستماتتها في حرب 1948، لينتهي الحديث بنادل المقهى وهو يقول، مؤكدا كلام القس صموئيل إن ''الجيش هو الشعب''، ما يجعلنا أمام ترويج فجٍّ لحكم العسكر وسياساته بعد المنعرج الذي عرفته الثورات العربية في 2013.
إذا كان ''أم هارون'' لا يتضمن دعوة صريحة للتطبيع مع إسرائيل، إلا أنه يمرّر رسائل سياسية، بعضها يصب في مجرى السردية الإسرائيلية. ولعل الترحيب الذي قوبل به داخل أوساط سياسية وإعلامية إسرائيلية، حتى قبل بداية عرضه، يؤكد ذلك بشكل أو بآخر.