الحرب الباردة المقبلة

الحرب الباردة المقبلة

27 مايو 2020
+ الخط -
الحرب الباردة الإيديولوجية التي عرفها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى تفكّك معسكر الاتحاد السوفييتي بداية تسعينيات القرن الماضي، انتهت، لكن الحديث عنها، أو على الأقل عن عودتها، لم ينته، فأغلب مراكز البحث والتفكير الاستراتيجي في العالم كانت تتوقع اشتعال هذه الحرب من جديد، بل وتوقعت أن تكون ذات طبيعة تجارية واقتصادية وتكنولوجية، لكن قليلا منها تنبأت بأن الأسلحة التي ستخاض بها لن تشبه تلك التقليدية.
انتقلنا اليوم من مرحلة الحديث عن هذه الحرب، باعتبارها مجرد فرضية يضعها الباحثون وصناع السياسات، أو يتوقعها علماء المستقبليات، إلى مرحلة التصريحات الصادرة عن فاعلين سياسيين مؤثرين في صناعة القرار الدولي، فالحرب كما قالت العرب سِجالٌ، ليس فقط بمعنى التباري والتفاخر وإنما أيضا التناظر الذي يعتمد على الخطاب. وفي هذه الحالة، وبلغة عصرنا، على التصريحات التي تبدأ كلامية وتنتهي بالمبارزة على أرض الميدان، فقد اتهم وزير الخارجية الصيني سياسيين أميركيين بالدفع نحو "حربٍ باردة" مع بلاده. خلفية هذا التصريح هي اتهامات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للصين بشأن انتشار فيروس كورونا، ولكن جوهرها هو السباق المحموم بين أميركا والصين على من يتسيد العالم مستقبلا، فالولايات المتحدة الأميركية التي فرضت أحادية قطبية العالم طوال العقود الثلاثة الماضية لا تريد من ينافسها على زعامة العالم، وبالأحرى أن يزيحها عن عرشها ليتولى الزعامة مكانها.
ترى أميركا في الحرب الباردة المقبلة تهديدا استراتيجيا لنفوذها في العالم، بل ولوجودها دولة 
قوية موحدة. وبالتالي، لن تظلّ المنافسة المثالية التي فرضتها العولمة والتطور التكنولوجي كما هي، عندما تتحوّل إلى منافسة استراتيجية على الهيمنة على اقتصاد العالم، والإمساك بمفاتيح التطور التكنولوجي.
كانت هذه المرحلة من الصراع منتظرة منذ بدأت الصين تنافس أميركا في مجالات الاقتصاد، وريادة الأعمال، والتقنية التكنولوجية، والإبداع والابتكار، وما فعله وباء كورونا هو تسريع وتيرة التوتر بين أكبر قوتين اقتصاديتين وتكنولوجيتين في العالم ليخرج صراعها على الزعامة إلى العلن بشكلٍ أصبح يهدّد العالم بالعودة إلى أجواء الحرب البادرة، مع فارق كبير أن الحرب الباردة التي عاشها العالم في السابق ستكون مجرّد نزهة خفيفة مقارنةً مع ما قد تحمله الحرب الباردة المقبلة من دمار يهدّد مستقبل البشرية على الأرض.
الحرب الباردة الإيديولوجية الأولى سميت كذلك لأن القوتين المتنافستين، أميركا والاتحاد السوفييتي، رفضتا الدخول في حربٍ مباشرة، وشجعتا حروبا بالوكالة بينهما، وعلى الرغم من كل مساوئها، لم تكن كلها سيئاتٍ، فهي أدّت إلى تقسيم العالم إلى معسكرين كبيرين متناقضين، وسرّعت وتيرة التسلح بين الدول، وجعلت العالم في لحظاتٍ حرجةٍ يقف على شفا حربٍ نوويةٍ مدمرة، إلا أنها أدّت إلى فرض أجواء من التعايش السلمي بين المعسكريْن، وساهمت في إيجاد توازن دولي دام زهاء عقدين، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وحتى بداية التسعينيات منه. وهما أكثر عقدين سلميين لم يشهد فيهما العالم حروبا مدمّرة مثل تلك التي عرفها قبلهما أو مثل التي شهدها خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي تميزت بأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. بالإضافة إلى أن سباق التسلح بين المعسكرين ساهم بشكلٍ كبير في تطوير العلم والتقنيات الحديثة. وبفضل هذا السباق، عرف العالم الثورة التكنولوجية الحالية التي تعتمد على القدرات السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، وهي لا تقلّ أهمية عن الثورات الكبرى التي غيرت حياة البشرية فوق الأرض.
ولكن الحرب الباردة المقبلة، في حال وقوعها، لن تكون "ناعمة" كما يصفها بعض الباحثين الاستراتيجيين، وليس هناك ما يضمن أنها ستكون أخف وطأةً على العالم مثل سابقتها. بالعكس، كل المؤشرات تنبئ بأن أسلحة الحرب المقبلة لن تكون ترسانات أسلحة مدمرة يحرسها الجنود وتتحكّم في مفاتيحها الحكومات والدول، وسباقها لن يكون فقط محفزا على تطوير التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الصناعي، وإنما قد يتحوّل إلى سلاح فتاك منفلت من كل سيطرة يضع العالم أمام حروبٍ مفتوحةٍ على كل الجبهات، بجنود غير نظاميين، وأسلحة غير مرئية، لكنها فتاكة ومدمرة.
لم يعد السؤال اليوم عن إمكانية وقوع حرب عالمية باردة جديدة، أو عن موعد حدوثها، فهي 
باتت حتمية، ونحن نعيش اليوم على وقعها، وحتى لو توصلت القوتان المتصارعتان، أميركا والصين، إلى هدنة تخفف من وطأة تصريحاتهما النارية والحرب الإعلامية والدعائية بينهما، إلا أن سباقهما نحو الهيمنة والسيطرة على العالم لن يتوقف، فهو بالكاد بدأ وستزداد حدّته بعد انتهاء أزمة وباء كورونا. وعكْس سباق التسلح خلال فترة الحرب الباردة السابقة الذي انتهى إلى ما سمّي "توازن الرعب"، فإن السباق التكنولوجي الحالي بين القوتين المتصارعتين لن يؤدّي إلى وقف هذا السباق أو تخفيفه، وإنما إلى تأجيجه، من أجل السيطرة على الفضاء السيبراني وتكنولوجيا الاتصالات.
تمتعت الولايات المتحدة (وحلفاؤها)، في أثناء الحرب العالمية الباردة الأولى، بتفوقها الأخلاقي والعلمي والاقتصادي والسياسي في حربها ضد المعسكر الإشتراكي الذي كان يفتقد إلى الحرية والديمقراطية، وشكّل موضوع حقوق الإنسان السلاح السرّي الذي حقق تفوّق الغرب على المعسكر الشرقي. تكاد الصورة اليوم تكون مختلفة، بل ومناقضة لتلك التي كانت سائدة في الماضي، فصورة الديمقراطية الغربية، خصوصا في نموذجها الأميركي الحالي، تبعث على السخرية والتقزّز، والقيم النبيلة التي كان يفخر بها العالم الحر بدّدتها سياسات اليمين الأميركي المحافظ، خصوصا في عهد الرئيس ترامب. وأمام التفوق التقني الصيني الذي يرجّح كفتها في هذه الحرب، يصبح الخوف مشروعا من الآثار السلبية على مستقبل الديمقراطية والحريات في العالم، في حال انتصار قوة استبدادية مثل الصين فيها! وهنا تكمن خطورة هذه الحرب.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).