سد النهضة .. التفاوض للتفاوض

سد النهضة .. التفاوض للتفاوض

25 مايو 2020
+ الخط -
المعنى الواضح لاستئناف المفاوضات حول مشروع سد النهضة الإثيوبي هو محدودية الخيارات المتاحة أمام مصر، وأن التفاوض صار (إنْ لم يكن من البداية) هو البديل الوحيد الذي يمكن للقاهرة تبنّيه، فمنذ ظهور الوجه العلني للأزمة عام 2011، ولا ردّ لمصر على إخفاق المفاوضات أو عبثيتها إلا بمزيد من التفاوض. من اللحظة الأولى، لقي خطاب إثيوبيا الذي يرفع شعارات التعاون والحوار قبولاً وتصديقاً مصرياً. وعلى الرغم من انكشاف مخاتلة ذلك الخطاب مبكراً، ثم تأكد زيفه لاحقاً، لم يتغير الموقف المصري المتمسّك بخيار التفاوض وحده دون غيره. وأخذت القاهرة تناشد وتدعو وتنوه وتأمل وتتمنّى وتطالب بمراعاة مصالحها المائية. وعلى الرغم من تمادي إثيوبيا في المناورة والتلاعب بمصر والسودان، لم تراجع القاهرة نفسها ولم تفكّر ولو مرة واحدة بالتلويح بوقف المفاوضات، حتى صارت ثنائية "التلاعب والتسامح" متلازمةً مميزة لكل مراحل الأزمة وإدارتها من الجانبين.
بعد فشل مسار واشنطن منذ ثلاثة أشهر، ومع اقتراب الانتهاء من مشروع بناء السد، تغير مضمون خطاب إثيوبيا وأسلوبه، فتخلت عن تغليف المماطلة والاستدراج واستهلاك الوقت بلغة هادئة خادعة، وبدأت تعلن، بشكل صريح ومباشر لا يحتمل لبساً ولا تأويلاً، أنها غير معنية بشواغل مصر والسودان وهواجسهما، والإعلان رسمياً عن البدء في ملء بحيرة السد في يوليو/ تموز المقبل. وبلغ التجاهل الإثيوبي لمصر والسودان حد إعلان أنها ليست مطالبة "باستئذان" الدولتين في إكمال مشروع السد.
إذاً، لم يستجدّ ما يشجع القاهرة والخرطوم على العودة إلى مائدة الحوار. وإنما تطوّر موقف أديس أبابا بما يؤكد أن المسار التفاوضي ليس عبثياً وحسب، بل أيضاً مضيعة للوقت والجهد وإهدارا لحقوق دولتي المصب. وبدلاً من تعديل أجندتها التفاوضية، أو مراجعة حساباتها بشأن تأثيرات السد على دولتي المصب، إذا بإثيوبيا تتنصّل من مسار واشنطن، وترفض فكرة استئناف التفاوض، من حيث توقف ذلك المسار.
وفق هذه المعطيات، يصعب تفسير تحرّك السودان لتسهيل استئناف مسار التفاوض، خصوصا أن تلك البادرة من الخرطوم جاءت مباشرة بعد إعلانها رفض عرض إثيوبياً بإبرام اتفاق ثنائي حول مشروع السد، بمعزل عن مصر. هذا التحول المفاجئ في الموقف السوداني الذي ظل طوال السنوات الماضية شبه محايد، مع قربٍ نسبيٍّ إلى مواقف إثيوبيا، جدير بالتحليل ويثير علامات استفهام كثيرة. ولكن الأكثر استعصاء على الفهم والتفسير هو المنطق المصري في الاستجابة السريعة لدعوة السودان إلى استئناف التفاوض، خصوصا أن تلبية القاهرة الدعوة السودانية جاءت بعد أيام من تصعيد إعلامي ودبلوماسي قامت به مصر، توّجته برسالة وجهتها إلى مجلس الأمن لتعبئة موقف دولي ضاغط على إثيوبيا. ربما يُعزى الارتداد السريع في تحرّكات القاهرة إلى فشل محاولة التدويل والخروج من مخاطبة مجلس الأمن بلا نتيجة إيجابية. وإن صح هذا تفسيرا، فإنه لا يصلح تبريرا لتلك اللهفة إلى استئناف التفاوض وتلقف الدعوة السودانية.
اتسمت الدعوة السودانية والاستجابة المصرية بالعمومية، وعدم تحديد أسس المفاوضات أو شروطها أو حتى أهدافها. وإذا كان منطقيا ألا تكون لدى إثيوبيا نية لوقف بناء السد أو تأجيل ملئه في أثناء التفاوض، فالمثير للدهشة أن مصر لم تطالب بذلك أصلاً ورحبت بالتفاوض من دون قيد أو شرط. والأكثر مدعاة للتساؤل، اتفاق الدول الثلاث على تكليف وزراء الري بالتحضير لاستئناف الحوار. ما يعني أن العودة إلى التفاوض من المدخل الفني، وليس السياسي. أي إعادة تطبيق الترتيب التفاوضي نفسه، على الرغم من فشله المتكرر.
التفسير الوحيد المتبقي لكل هذه الملابسات أن الاستمرار في التفاوض، ولو إلى ما لا نهاية، ليس بالضرورة انسياقاً وراء رغبة إثيوبية في المماطلة واستهلاك الوقت، فربما هو مصلحة للسلطة الحاكمة في مصر، بتأجيل انكشاف ضعف موقفها وعجزها أمام المصريين عن إيقاف بناء السد وتشغيله.

دلالات

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.