الجزائر ومسألة الجيش خارج الحدود

الجزائر ومسألة الجيش خارج الحدود

25 مايو 2020
+ الخط -
من المواد المثيرة للجدل في مسوّدة الدّستور التّي أرسلتها الرّئاسة الجزائرية إلى المجتمع المدني، والطّبقة السياسية والشّخصيات الوطنية للنّقاش، تلك المتّصلة بإمكانية إيفاد قوات عسكرية من الجيش الجزائري إلى الخارج، وهو ما يستدعي وقفة لقراءةٍ متأنيةٍ في الأسباب الدّاعية إلى التّفكير في مراجعة العقيدة العسكرية الجزائرية، رأسا على عقب، في ظلّ ظروف حرجة على مستوى كل الأصعدة بالنسبة للجزائر، وفي البيئة الجيو- سياسية الجوارية والإقليمية. 
بداية، يجب أن يُطرح سؤال وجيه بشأن هذه التعديلات، هل هي لمعالجة إشكاليات خاصّة بالنّظام السّياسي، أم أنها تعديلات مطروحة لتعالج أزمة سياسية جزائرية، مردّها إلى سير غير مجدٍ للمؤسّسات، ونقص في الحريات، إضافة إلى عدم وضوح العلاقة بين السلطات الثلاث، وخصوصا استقلالية القضاء، من دون إغفال طبيعية التمثيلية التي يمكن إعطاؤها للبرلمان، وباقي المؤسّسات التّمثيلية الدّستورية، القضائية والإدارية (مركزية ومحلية)؟. الإجابة عن هذا السّؤال كفيلة بشرح أسباب اللّجوء إلى إدراج مادّة ستغيّر من عقيدة الجيش الجزائري، وفي رؤية السياسة الخارجية الجزائرية لكيفية التعاطي مع الأزمات، خصوصا في الجوار المباشر، على غرار ما يحدث في ليبيا، مثلا.
نحتاج، في المقام الثّاني، إلى فهم أولويات البلاد الاستراتيجية، هل تكمن في لملمة جراح البلاد
 والنهوض من عشريتين (1999 - 2019)، هي حصيلة حكم الرّئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، هدّمتا كل مقومات الاقتصاد القومي وضيعتا فرص التنمية والتطوّر من خلال منظومة الفساد الذي طاول كلّ مناحي الحياة، والذي يوجد بسببه، الآن، طاقم حكومي، يكاد يكون كاملا، في السّجن برفقة أشباه رجال أعمال وموظّفين حكوميين من أعلى الرّتب؟ أم أنّ الأولويات هي في السّعي نحو التدخّل بالجيش الجزائري خارج الحدود في عمليات عسكرية معقدة وتنتج عنها، حتما، انتكاساتٌ كالتي ماثلة أمام أعيننا، في بلدانٍ كثيرة، لعلّ أقربها ليبيا، وهي المعنية، في المقام الأول، بأية عملية تدخّلية محتملة لجيش الجزائر خارج الحدود إذا استفحل الأمر هناك؟
لم تأت التعديلات المقترحة لمسوّدة الدّستور إلاّ للأولويات الاستراتيجية، المتمثلة في إعادة بناء المنظومتين السياسية والاقتصادية، ثم الالتفات إلى رؤى جديدة في العلاقات الخارجية وفق مصالح محددة، وليس لاقتراح مراجعة كاملة للعقيدة العسكرية القومية. وعلى هذا، القصد المحوري هو في إعادة التّوازن لسير المؤسّسات والممارسة السياسيتين في البلاد، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بتدرّجية منطقية تنطلق من مشروع عقد اجتماعي توافقي بين أبناء الوطن الواحد يتطلّب، فيما يتطلّبه، إجراءين حيويين متصلين بمراجعة عميقة لأولويات العلاقات الخارجية للجزائر، قد تكون محصّلتها، أولا، إعادة التفاوض بشأن اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، بما يخدم مصالح البلاد، وليس خدمة نظام سياسي لم يستفد من اتفاقيتي بلدي الجوار (تونس والمغرب) مع القطب الأوروبي ونتائجهما الوخيمة ليرهن، في عام 2002، لأسبابٍ سياسيةٍ محضة، مستقبل البلاد. وثانيا، التّفكير في بعث المشروع التكاملي/الاندماجي المغاربي (اتحاد المغرب العربي) الذي سيكون عماد مشروع قوةٍ مستقبليةٍ تكون نهايته تعديل العقيدة العسكرية الجزائرية، وإدراج مادة دستورية تتضمن إمكانية إرسال أفراد من الجيش إلى خارج الحدود في عمليات عسكرية.
بالنتيجة، المراجعة للعقدية العسكرية تكون تالية لمشروع بناء قوّة سياسية واقتصادية في إطار رؤية استراتيجية، وليس مقدمة لها، وبخاصّة أنّ الإدراك الذي فهمه الجزائريون أنّ هذه المادّة 
جاءت لردع المشاريع التدخلية في جوار الجزائر، وهي المهدّدة للجنوب الشرقي الجزائري، المتاخمة لليبيا، لأنّه يترافق مع نشر أسلحة، مرتزقة وبناء قواعد عسكرية، أطلسية وأخرى فرنسية، تدعمها أموال تتدفّق من الإمارات، على خلفية مساندة يتلقاها طرفا الحرب في ليبيا جعلت من الحدود القريبة من الجزائر ساحةً لانخراطٍ دولي مشبوه، لا يمكن تصديق أنّ مصالحه تتوقف عند مجرّد فرض قيادة للبلد، تقسيمه أو نهب خيراته.
تعوّض تلك المادّة المقترحة في مسودّة الدّستور الاحترافية التي اكتسبها الجيش الجزائري في العشرية الأخيرة (في إطار مشروع دولة وليس نظاما)، كما تبرزه مؤشّرات الاستعداد والجاهزية من خلال مناوراتٍ لم تتوقّف لإظهار إمكانيات الجيش الجزائري وقدراته للتصدّي للتّهديدات. ولعلّ عملية "تيقنتورين" (الهجوم على المجمّع الغازي، في 2013، في الجنوب الجزائري، وتصدّي الجيش له من خلال عملية عسكرية خاطفة) من وجوه تلك المقوّمات والقدرات الهائلة لجيشٍ يدافع عن الحدود الوطنية، ويحتوي الأخطار كما يردع المشاكسين، أيا كانوا، من مغامراتٍ بالقرب من الحدود الجزائرية، وهو ما تترجمه مقولة الرئيس عبد المجيد تبّون "طرابلس خط أحمر"، ذلك أنّ الرّدع، في مفهوم الاستراتيجية العسكرية، ينصرف إلى معاني إبراز القوّة وحدودها، ومن ثمّة انتشارها لتصل الرّسائل إلى الأعداء والخصوم، فضلا عن المتربّصين.
إذن نحن أمام مقدّمة ونتائج، مقدّمة تُعنى ببناء منظومتين، سياسية واقتصادية، في إطار 
استراتيجية مدروسة ونتائج تتمثّل، أساسا، في محصّلة مقوّمات وقدرات يمكن أن تزيدها زخما إجراءات إعادة مراجعة السياسة الخارجية، بما يخدم ذلك المشروع، ويصل بالجزائر إلى تلك النتائج، لأنّ دروس التدخّل التي نراها بدون تلك المقدمة لا يمكن أن تؤدّي إلاّ إلى غياب الحزم وتضييع العزم، فضلا على أن تكون هناك أهداف أو مصالح أي مستقبل بدون نتائج.
مع ذلك، مجرّد إيراد احتمالية هذا التّعديل، إبراز لنية وإدراك مستقبليين في إرادة المراجعة للعقيدة الاستراتيجية للجزائر، على ضوء ما نراه من تدخّل سافر قبالة حدودنا الجنوبية الشرقية في ليبيا، وهي مراجعة ردعية أكثر منها عملية، لكنها تحتاج دراسة وتأنيا في اتخاذ القرار بشأنها، لأن الأمر يتطلب أخذا وردّا وتفكيرا مليا وعميقا، إضافة إلى توفر خياراتٍ تُمكّن الجزائر من أداء دور محوري في ليبيا، بصفة خاصّة، بالنّظر إلى رصيد البلاد من قبول لدى القبائل اللّيبية والرّوابط التاريخية التي عمّقت أواصر العلاقات بين الشّعبين منذ العهد الاستعماري. وهي خياراتٌ، في الوقت الحالي، أجدى من تعديل ومراجعة للعقيدة العسكرية الجزائرية، بكلّ ما يحمله ذلك من مخاطر، إذا تحوّل إلى إجراءات عملية على أرض الواقع في المستقبل المنظور.
هذه هي متطلّبات الرّؤية الاستراتيجية لقرار بحجم المراجعة للعقيدة العسكرية في ظلّ ظروف جوارية وإقليمية شديدة التعقيد، تتضافر معها ظروف داخلية حساسة، تتمثّل في جائحة كورونا وتداعياتها الكبيرة على كلّ مناحي الحياة، من دون أن ننسى تدهور أسعار النّفط وما جرّته من نتائج كارثية على مداخيل البلاد، نحتاج معها إلى توافق وطني، لعل أولى خطواته الإجماع على أن تلك المادة الداعية إلى إمكانية إرسال أفراد الجيش الجزائري إلى الخارج هي محصلة مقدمة تتمثّل في بناء البلاد على أسس قوية ونتائج هي جزائر الغد، جزائر قوية تردع بقوتها ثم بجيشها داخل البلاد وخارجها.
ذلك هو الفهم الذي يجب أن يفرض نفسه لتكون عملية المراجعة للدستور مقدّمة، في حد ذاتها، لمستقبل توافقي تكون خلفيته مشروع بناء وطن وقوة بمرجعية تفكير عميق واستراتيجي، يُرفع وكأنّه تحدي حياة أو موت بالنسبة للبلاد. وهو كذلك حقّا، لا مجازا.