أشواق المستوزرين وخدمة المستبدّين

أشواق المستوزرين وخدمة المستبدّين

22 مايو 2020
+ الخط -
في عبارة مفتاحية كاشفة، يقدم عبد الرحمن الكواكبي، ضمن معالجته المتميزة لعلاقة مفهوم التمجّد المبتكر الذي أورده ضمن كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" أن المستبد خائن لأمته، خائف من شعبه، وأن افتقاره واحتياجه ليمارس سياسات طغيانه، ويمكن لسلطانه الغاصب الفاجر الظالم أن يجعله يبادر، في كل خطاب وفعل وكل أداة وسياسة، لتشكيلٍ عصابي يعينه ويحميه، ودائما ما تحوطه زمرة من الانتهازيين والنفعيين "أنّ المستبدَّ لا يخرج قطّ عن أنّه خائنٌ خائفٌ محتاجٌ لعصابة تعينه وتحميه، فهو ووزراؤه كزمرة لصوص: رئيس وأعوان. فهل يجوِّز العقل أن يُنتخب رفاقٌ من غير أهل الوفاق؛ وهو هو الذي لا يستوزر إلا بعد تجربة واختبار، عمراً طويلاً؟!"؛ ربما يقوم المستبد بتأسيس جهاز من أهل ثقته، ومن سدنة طغيانه، يضع الشروط والمعايير لمن يدخل إلى سلطانه، ويستفيد من شبكة استبداده وفساده؛ تكون مهمة هؤلاء الأعوان، ومنهم المستوزرون المشتاقون للسلطة والواقفون على أبواب المستبدّين، ينتظرون منه إشارة البدء لقيام كل منهم بدوره المرسوم وفعله المشؤوم، فتكون شبكة الأعوان وعلى رأسهم الوزراء .. ليقول بلسان الحال المؤشّر إليه بسياسات وأفعال، بما يغني عن لسان المقال "الأعوان .. الأعوان، الحَمَلَة السَّدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجيشٍ من الأوغاد، أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغير هذا الحزم لا يدوم لي مُلْكٌ كيفما أكون، بل أبقى أسيراً للعدل معرِّضاً للمناقشة منغِّصاً في نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً جباراً متفرِّداً قهّاراً". 
الحكومة المستبدّة لدى الكواكبي كما أشرنا آنفا.. "تكون طبعاً مستبدّة في كل فروعها من المستبدّ الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنائس الشوارع، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل 
طبقته أخلاقاً، .. غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته ..، وبهذا يأمنهم المستبدُّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها، ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته، فكلما كان المستبدُّ حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً"، إن عمليات التجنيد السياسي لهؤلاء، كما أشار الكاتب من قبل، إذ يمارس معايير اختياره الدنيئة بموازينه الفاجرة الحقيرة، فيؤسس لشبكة استبداده ومؤسسات فساده معا؛..".. ولهذا، لا بدَّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه لؤماً، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم، حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه". ومن هذه الشبكة "من لا يتنزَّل لقليل الرشوة أو السرقة، ..وليس فيهم العفيف عن الكثير، وكفى بما يتمتعون من الثروات الطائلة التي لا منبت لها غير المستبيح الفاخر بمشاركة المستبدّ في امتصاصه دم الأمة، وذلك بأخذهم العطايا الكبيرة، والرواتب الباهظة التي تعادل أضعاف ما تسمح به الإدارة العادلة لأمثالهم؛ لأنها إدارة راشدة لا تدفع أجوراً زائدة .. والحاصل أنَّ الأكابر حريصون على أن يبقى الاستبداد مطلقاً لتبقى أيديهم مطلقة في الأموال".
يفضح الكواكبي هذا النمط من وزراء المستبد بتشريح نفسي لهذا النموذج، ويحذّر من الانخداع به؛ ".. وربما يغترُّ المطالع بأن بعض وزراء المستبدّ يتأوهون من المستبدّ، ويتشكّون من أعماله ويجهرون بملامه، ويظهرون لو أنّه ساعدهم الإمكان لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة بأموالهم، بل وحياتهم، .. فهل يمكن أن يكون الوزير متخلِّقاً بالخير حقيقة، وبالشَّرِّ ظاهراً فيخدع المستبدّ بأعماله، ولا يخاف من أنَّه كما نصبه وأعزَّه بكلمة يعزله ويذلّه؟! .. بناءً عليه، فالمستبدّ وهو من لا يجهل أنَّ الناس أعداؤه لظلمه، لا يأمن على بابه إلا من يثق به أنَّه أظلم منه للناس، وأبعد منه على أعدائه، وأما تلوُّم بعض الوزراء على لوم المستبدّ فهو إن لم يكن خداعاً للأمة فهو حنقٌ على المستبدّ؛ لأنه بخس ذلك المتلوّم حقه، فقدَّم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية دينه ووجدانه. وكذلك لا يكون الوزير أميناً من صولة المستبدّ في صحبته ما لم يسبق بينهما وفاق واتِّفاق على خيرة الشيطان؛ لأن الوزير محسودٌ بالطبع، يتوقّع له المزاحمون كلَّ شرّ، ويبغضه الناس ولو تبعاً لظالمهم، وهو هدفٌ في كلِّ ساعةٍ للشكايات والوشايات.. والنتيجة أنَّ وزير المستبدّ هو وزير المستبدّ، لا وزير الأمّة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المستبدّ ليغمده في الرقاب بأمر المستبدّ لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أنَّ الأمّة لا تقلِّد القيادة لمثله" إنه وزير المستبد لا وزير الأمة، وشتان بين الصنفين في الوظيفة والدور والمقصد.
"بناءً عليه؛ لا يغترُّ العقلاء بما يتشدَّق به الوزراء والقوّاد من الإنكار على الاستبداد والتفلسف 
بالإصلاح، وإن تلهَّفوا وإن تأففوا، ولا ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإن ناحوا وإن بكوا، ولا يثقون بهم ولا بوجدانهم مهما صلّوا وسبّحوا، لأنَّ ذلك كلّه ينافي سيرهم وسيرتهم، ولا دليل على أنّهم أصبحوا يخالفون ما شبّوا وشابوا عليه، هم أقرب أن لا يقصدوا بتلك المظاهر غير إقلاق المستبدِّ وتهديد سلطته ليشاركهم في استدرار دماء الرّعية؛ أي أموالها. نعم، كيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي قد ألف عمراً كبيراً لذّة البذخ وعزّة الجبروت في أنَّه يرضى بالدخول تحت حكم الأمّة، ويخاطر.. أليس هو عضواً ظاهر الفساد في جسم تلك الأمة التي قتل الاستبداد فيها كلَّ الأميال الشريفة العالية فأبعدها عن الأنس والإنسانية، .. إنَّ أكابر رجال عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمّة، فكلُّ ما يتظاهرون به أحياناً من التذمّر والتألّم يقصدون به غشَّ الأمة المسكينة التي يطمعهم في انخداعها وانقيادها لهم علمهم بأنَّ الاستبداد القائم بهم والمستعمر بهمَّتهم قد أعمى أبصارها وبصائرها، وخدَّر أعصابها". إن لهؤلاء دورا ووظيفة في الخداع والتزوير لحال الأمة وقيامهم بعمليات غسيل المخ الجماعي لعموم الناس وتخدير أعصابهم وتأمين قابلياتهم لتمكين الاستبداد والمستبد وفق طرائقهم الخبيثة.
إنها عصابة من المنتفعين من علماء السلطان ودكاترة السلطان ومثقفي السلطة و"الشبيحة" والممارسين أشكالا من البلطجة السياسية والثقافية والمجتمعية، وحملة المباخر وزبانية الإعلام والمستوزرين والبرلمانيين المتمجدين، كما أشار إلى ذلك حفيد الكواكبي، الكاتب سلام الكواكبي، في مقالته الضافية "المتمجدون الجدد" في "العربي الجديد" (31/7/ 2016)، متوقفا عند أحد المشاهد القميئة التي تمرّر طغيان الحاكمين وسلطان المستبدين، وتصويرهم بأنهم فوق المساءلة والحساب؛ إن هذا التحليل لطبقة أعوان المستبد، وخصوصا من المستوزرين، التي أوحت لفناني رسم الكاريكاتير ليشيروا إلى نموذج "عبده مشتاق" الذي يريد من شوقه للسلطة لو أبدى في بعض مفردات خطابه مؤشرات رشدٍ، وفي فعله بعض علاماتٍ توحي بمناصرته مطالب عموم الناس والأمة، "كيف يكون عند الوزير شيءٌ من التقوى أو الحياء أو العدل أو الحكمة أو المروءة أو الشّفقة على الأمة، وهو العالم بأنَّ الأمة تبغضه وتمقته وتتوقّع له كلَّ سوء، وتشمت بمصائبه، فلا ترضى عنه ما لم يتّفق معها على المستبدّ، وما هو بفاعلٍ ذلك أبداً، إلا إذا يئس من إقباله عنده، وإن يئس وفعل، فلا يقصد نفع الأمة قطّ، إنما يريد فتح بابٍ لمستجدٍّ جديد عساه يستوزره فيؤازره على وزره". والنتيجة أنَّ المستبد فردٌ عاجز، لا حول له ولا وقوة إلا بالمتمجدين (من كل صنف ولون)، والأمة؛ أي أمة كانت، ليس لها من يحكُّ جلدها غير ظفرها، وليقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات".
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".