في ذكرى رحيل الجابري

في ذكرى رحيل الجابري

21 مايو 2020
+ الخط -
حلّت قبل أيام الذكرى العاشرة لرحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935 - 2010) الذي ترك إرثا فكريا زاخرا، ما فتئ يثير الجدل على مختلف واجهات السياسة والاجتماع والثقافة. وفي الوسع القول إن أهمية الجابري لا تتأتى، فقط، من نصوصه التي أثْرت المدونة الفكرية العربية المعاصرة، ولكن، أيضا، من المسالك الجديدة التي فتحتها، سواء في ما له صلة باجتراح مقارباتٍ جديدةٍ لقراءة التراث العربي والإسلامي والتصدّي لإشكالاته الكبرى، أو في ما يتعلق بالجسور التي سعت هذه النصوص إلى بنائها مع ما كان يستجد، ولا يزال، على الساحة العربية. 
وكغيره من مُجايليه، لم يكن استدعاء التراث، بالنسبة للجابري، ترفا معرفيا وأكاديميا بقدر ما كان انعكاسا لوعيٍ عميقٍ بأسئلة الحاضر ورهاناته، سيما بعد الارتجاج الكبير الذي أحدثته نكسة 1967 على أكثر من صعيد. ويُحسب للجابري أنه كان من المفكرين العرب الأوائل الذين وعوا أهمية تحرير الفكر العربي من ربقة الأيديولوجيا، فكانت له بصمته الواضحة في الانعطاف بهذا الفكر نحو آفاقٍ مغايرةٍ في وقتٍ كانت فيه السطوةُ للكتابات الماركسية والقومية التي كانت تنطلق، في قراءاتها للتراث، من مرجعياتٍ وثوقيةٍ صرفة. وقد كان لانخراطه المبكر في النضال السياسي أثره في تخصيب اجتهاداته، فقد كان فاعلا قياديا مؤثرا، ومنظرا بارزا داخل اليسار الإصلاحي المغربي، وهو الذي أسهم، بقسط غير يسير، في وضع المنطلقات الفكرية للخيارات السياسية التي تبنّاها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد مؤتمره الاستثنائي (1975).
قد لا يكون من باب المبالغة القول إن أعمال الجابري لا تزال تحتفظ براهنيتها، ليس فقط من زاوية مدى وجاهة طروحاتها، وإنما أيضا بسبب ما آلت إليه معظم ثورات الربيع العربي، بعد إخفاقها في بناء صيغٍ متوافَق عليها للتحوّل نحو الديمقراطية وإعادة بناء الدولة الوطنية، بواسطة ''كتلة تاريخية'' تتجاوز الخلافات الأيديولوجية، وتستوعب التيارات والحركات الفكرية والسياسية المؤثرة في المنطقة، بما يؤدي إلى إعادة طرح قضايا الإصلاح والنهضة والتحديث في ضوء ما استجد داخل مجتمعاتنا.
كشفت هذه الثورات عن الأعطاب البنيوية الكامنة في الثقافة السياسية العربية، وهي أعطاب تعكس، في مجملها، فاعلية التقليد في تغذية بنيات الاستبداد والفساد والتخلف. من هنا، كان الجابري مدركا أهمية تفكيك هذا التقليد، أولا من خلال تخطّي بنيات التنظيم الاجتماعي التقليدي، وفي مقدمتها ''القبيلة'' التي لا تزال مصدر فاعليةٍ في الاجتماع السياسي العربي، على الرغم من التزايد اللافت في الطلب على قيم الحرية والديمقراطية والمواطنة. وثانيا بالعمل على صياغة نموذج اقتصادي كفيل بالتحرّرٍ من ثقافة ''الغنيمة'' التي تتبدّى في مختلف أشكال الريع والفساد السياسي والإداري. وأخيرا بالنظر إلى ''العقيدة'' وفق فاعليتها على صعيد التعبئة والتحريك، بما يُفضي إلى إيجاد طرائق جديدة لتأطير التدافع الأيديولوجي والاجتماعي، عبر تجاوز الوثوقيات العقائدية والمذهبية والفكرية، وتبيئةِ مبدأ الاختلاف القائم على حرية الرأي والتفكير.
ضمن هذا الأفق النقدي، انشغل الجابري بالصيغ العملية التي تسمح بتجاوز التمثلات المحافظة للتراث نحو تمثلاتٍ أخرى أكثر واقعيةً وقدرةً على استثارة أسئلة الحاضر وقضاياه، من دون إغفال السياقات الانتقالية التي تمرّ منها المجتمعات العربية.
سعى الجابري، في مختلف كتاباته وسجالاته، إلى البحث عن الكيفيات التي تسمح بتشكّلٍ هادئٍ لعقلانية عربية جديدة تنبني على نقد الماضي، بغاية استعادته وتحريره من القراءات الوثوقية، فانشغل بالبحث عن منطقةٍ وسطى تتقاطع عندها أسئلة الماضي والحاضر في توليفةٍ فكريةٍ وتاريخيةٍ قادرة على رفع التحدّيات التي تجابهنا. غير أنه، في المقابل، لم يتخلص، في ذلك، من توفيقيةٍ باديةٍ طبعت تعاطيه مع بعض قضايا موروثنا الثقافي، مبرّره في ذلك التطلع إلى إمكانية لإعادة طرح هذه القضايا وفق قيم العصر ومنجزاته، بما يُفضي إلى ترميم علاقتنا بالماضي، من دون تكاليف كبيرة.
وإذا كانت طروحات الجابري في التراث والنهضة والحداثة والديمقراطية قد سبق أن جرّت عليه انتقادات متباينة، فذلك لم يمنع من أن تعود هذه الطروحات إلى الواجهة من خلال مخاضاتٍ غير مسبوقة، لم يكتب لصاحب مشروع ''نقد العقل العربي'' أن يُعايشها.