حفتر والهروب إلى الأمام

حفتر والهروب إلى الأمام

03 مايو 2020
+ الخط -
أشارت مقالات سابقة للكاتب في صحيفة "العربي الجديد" إلى أنّ اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، لا يريد أن يكون جزءاً من المنظومة السياسية الحاكمة في ليبيا، بل يطمح إلى أن يكون الحاكم العسكري الفعلي الذي يقود البلاد. وأكّد الجنرال في خطابه أخيراً (27 إبريل/ نيسان 2020) صدقيّة ذلك التوقّع. فقد أعلن أنّ "الشعب الليبي استجاب لخطاب طلب التفويض"، الذي قدّمه في 23 إبريل/ نيسان، وأنّ النّاس نزلوا إلى الشوارع يبايعونه ليتولّى إدارة البلاد، وأنّه قرّر الاستجابة لذلك النّداء الجلل. واعتبر اتفاق الصخيرات (2015) "شيئاً من الماضي"، وهو الاتفاق الذي جمع الفرقاء الليبيين، ورعته الأمم المتحدة، وأنتج نظام الحكم الحالي. وتعلّل الجنرال بأنّ الاتفاق المذكور "دمّر البلاد". من دون أن يقدّم بديلاً عن مخرجاته، مكتفياً بتنصيب نفسه رئيساً لليبيا. ما هي خلفيات هذا القرار الذي أقدم عليه حفتر؟ وما هي دلالاته واستتباعاته؟
من المفيد الإشارة أوّلاً إلى أنّ قول خليفة حفتر إنّ الشعب الليبي فوّض القيادة العامّة ممثّلة في شخصه لإدارة البلاد في المرحلة المقبلة فيه كثير من المبالغة، فعدد من أيّدوا مطلبه بتفويضه لحكم ليبيا ضئيل، لا يتجاوز حدود أعيان بعض القبائل في المنطقة الشرقية، وبعض فلول النظام القديم، ومنتمين إلى السلفية المدخلية، ولا يمكن بحال اختزال الشعب الليبي في تلك الفئة، خصوصاً أنّ معظم السكان يتمركزون في المنطقة الغربية التي لم تشهد مظاهرات ذات بال مؤيّدة لتفويض لحفتر. بل يعرف عن جلّ الأهالي هناك انتصارهم لثورة 17 فبراير (2011)، وموالاتهم حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السرّاج.
والواقع أنّ إقدام حفتر على طلب التفويض، مع إعلانه الانقلاب على اتّفاق الصخيرات، ليس فعلاً اعتباطياً، ولم يأت فجأة. بل كان متوقّعاً، وجاء نتيجة تطوّرات عسكرية وسياسية لم تكن في صالح حفتر وحاشيته. في مستوى التوقيت، جاء إعلان الرّجل الاستفراد بالحكم بعد تراجع
 حضوره العسكري في الغرب الليبي، وخسارته مدينة غريان الاستراتيجية، وبعد فشل كتائب الفتح المبين التابعة له، عاماً ويزيد، في دخول طرابلس، وهو الذي وعد داعميه وأنصاره باقتحامها في أيّام معدودة. كما جاء الهروب إلى التفويض وركوب مطيّة الحكم بطريقة انقلابية بعد الانتصارات المهمّة المتتالية التي حققتها قوّات "بركان الغضب"، الموالية لحكومة الوفاق منذ انطلاق عملية "عاصفة السلام"، فقد تمكّنت، في وقت وجيز، من طرد كتائب عملية الكرامة من مدن الساحل الغربي، وبسطت نفوذها على أجزاء من مدينة ترهونة، وفرضت عليها حصاراً مطبقاً، وقامت بتحييد قاعدة الوطية الجوية، وأحرزت تقدّمات معتبرة في محاور بوقرين، والوشكة، وسرت. وأربكت تلك التحوّلات في الساحة العسكرية حسابات حفتر وبعثرت أحلامه، وجعلته في إحراج كبير أمام حلفائه ومناصريه في الداخل والخارج. وثارت في وجهه أسئلة كثيرة، طرحها مراقبون وليبيون: متى تنتهي الحرب على طرابلس؟ ما الفائدة من استمرارها؟ حتّى متى يستمرّ قطع الماء والغاز والكهرباء على سكّان العاصمة؟ بماذا يفسّر قصف كتائب حفتر مواقع مدنية؟ حتّى متى سيبقى المدنيون يعانون ويلات النزوح والتهجير والقصف العشوائي واللايقين جرّاء حربٍ عبثية؟ ما هو مصير الأسرى والجرحى من كتائب "الفتح المبين"؟ كم يجب أن تدفع قبائل الشرق من ضحيّة، حتّى يتحقّق النصر الموعود؟ حتّى متى يستمرّ إغلاق منابع النفط وإلحاق الضرر بالاقتصاد الليبي وبشركاء ليبيا الدوليين؟ من سيتحمّل الكلفة المادّية والأخلاقية لتلك الحرب، ومن سيعوّض الضحايا؟ كيف يمكن إقناع الحلفاء الإقليميين بأنّ الحرب حقّقت أهدافها؟ أسئلة تلافى حفتر الالتفات إليها والإجابة عنها، وأعلن بدل ذلك أنّه أصبح حاكماً بموجب تفويضٍ شعبيٍّ لم يتحقّق، والمراد التغطية على هزائمه العسكرية، وامتصاص غضب القبائل الموالية له، وتفادي انقسامها أو انتفاضتها ضدّه. لذلك عمل على إقناعها بأنّه أصبح رئيساً، ولو من دون اعتراف دولي أو داخلي جامع.
عمليّاً، ألقت الخسائر العسكرية ظلالها على المشهد السياسي، فمشروع عملية الكرامة لم يتمكّن من تحشيد النّاس لصالحه في المنطقة الغربية، وظلّ معزولاً، بلا حاضنةٍ شعبيةٍ حتّى في المناطق التي سيطر عليها، ولم تنجح كتائب الفتح المبين في دخول طرابلس عاصمة القرار السياسي، وعنوان السيادة والثورة، ومركز الثقل السكاني، والدبلوماسي، والإداري. وحكومة فايز السرّاج، على الرغم مما يدور من جدل بشأن أدائها، استوعبت صدمة الهجوم المباغت، ولم تسقط. بل أعادت ترتيب أولوياتها، واستماتت في التمسك بمشروع مدنية الدولة والتداول السلمي على السلطة، وكسبت، إلى حدّ معتبر، ثقة سكان المنطقة الغربية، خصوصاً بعد الانتصارات أخيراً. وعلى خلاف ما توقّع حفتر، تجاوزت كتائب الثوار خلافاتها، واتحدت في مواجهة الثورة المضادّة. وتمّ تعطيل خلايا نائمة موالية للجنرال في طرابلس. وأدّى ذلك إلى فشل مشروع عسكرة الدولة في تحقيق أهدافه السياسية، وفي مقدّمتها نسف اتفاق الصخيرات، وتبديل هياكل الحكم بالقوّة، وإعادة إنتاج النظام الشمولي وسلطوية الزعيم الواحد. ونتيجة ذلك، وجد خليفة حفتر نفسَه خارج اللعبة السياسية، وأدرك أنّ حكومة الوفاق، المعترف بها دوليّاً، لن تقبل الجلوس إليه مجدّداً للتفاوض حول تسوية الأزمة الليبية، بسبب ما ارتكبته قوّاته من انتهاكاتٍ ضدّ سكان 
المنطقة الغربية، وبسبب نقضه الهدنة مراراً، وميله إلى ترجيح الحل العسكري على الحلّ السياسي في التعاطي مع الوضع الليبي. وأمام حالة الانسداد السياسي التي انتهى إليها، نصّب حفتر نفسه رئيساً، ليظهر في صورة الرجل القوي في ليبيا، وليختزل الدولة في شخصه، وليقدّم نفسه وصيّاً على المنطقة الشرقية، وليسحب البساط من تحت أيّ طرفٍ مدني في الشرق الليبي يمكن أن يحلّ محلّه في مسار التفاوض حول الوضع النهائي في ليبيا. واللافت هنا أنّ حفتر، إذ ينكر اتفاق الصخيرات، لا ينقلب على حكومة الوفاق ومتعلّقاتها فحسب، بل أيضاً على مجلس نوّاب طبرق، بقيادة عقيلة صالح، الذي شرعن وجوده، ومثّل غطاء سياسياً لعملياته، وأعاده من التقاعد إلى العمل، ومنحه صفة قائد القوات المسلّحة، وعارض قانوني الجيش والعزل لأجله. ويبدو أنّ الرّجل يضيق بوجود سلطة مدنية منافسة له، فأقصى الجميع لصالح سلطانه وحده. وينذر ذلك بحصول انقسام قبلي داخل الشرق الليبي نفسه. ولكنّ المشكلة بالنسبة إلى حفتر أنّ المجتمع الدولي رفض خطوته الانقلابية، فالسفارة الأميركية في ليبيا أكّدت أن "التغييرات في الهيكل السياسي الليبي لا يمكن فرضها من خلال إعلان أحادي الجانب"، وصرّح قيدوم الدبلوماسية الروسية، سيرغي لافروف، أنّ بلاده لا تدعم تصريحات حفتر التي زعم فيها أنّه وحده من سيقرر كيف سيعيش الليبيون، وعبّرت دول وازنة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، عن تمسكها بالشرعية الدولية، قائلة إنّ الصراع في ليبيا لا يمكن حلّه بقرارات فردية. وقال المتحدث باسم المفوضية الأوروبية بيتر ستانو "إن استخدام العنف والحلول الفردية يضرّ بالعملية السياسية، وينتهك اتفاقية عام 2015". وأكّدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة، ستيفاني وليامز، أنّ "الاتفاق السياسي الليبي والمؤسسات المنبثقة عنه يبقيان الإطار الوحيد المعترف به دولياً للحوكمة في ليبيا، وفقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي. وأنّ أي تغيير سياسي يجب أن يتم عبر الوسائل الديمقراطية." وبذلك لاقت مبادرة حفتر الانقلابية إنكاراً دوليّاً واسعاً، وبدا واضحاً أنّ القوى الدولية الفاعلة، وإنْ تعدّدت مشكلاتها وتضاربت مصالحها في ليبيا، فإنّ فيها عقلاء لا يقبلون الخروج عن الشرعية الأممية، وينحازون إلى الديمقراطية بديلاً عن الدكتاتورية. وتلك علامة إيجابية في صالح الليبيين والعالم.
ملخّص القول، يهرب خليفة حفتر من مواجهة خصومه في ميدان المعارك، ومن مواجهة أعيان القبائل وذوي المقاتلين والضحايا وعموم أنصاره، ويهرب إلى الأمام من ضغط حلفائه في الخارج، فلا يقدّم تبريراً لتعثّره المتّصل على تخوم طرابلس، ولهزيمته البيّنة في غريان ومدن الساحل الغربي، ولا يقترح مخرجاً لمئات الأسرى والمقاتلين العالقين في ترهونة والوطية وجنوب طرابلس، ولا يستدلّ بحجج منطقية، يقنع بها أشياعه في الداخل والخارج، ويبرّر بها إهدار المال والرجال، والعتاد، وتشتّت "الفتح المبين" في معركة غير مأمونة العواقب، تكهّن العارفون بأنّها خاسرة من قبل أن تبدأ. وبدل نقد الذات، وتقويم مخرجات عملية الكرامة، ونتائج حملة "الفتح المبين"، بطريقة موضوعية، ينصرف الجنرال إلى تنصيب نفسه حاكماً مطلقاً في البلاد، وهي قفزة إلى المجهول، ستزيد من تعقيد الأوضاع في ليبيا، ومن عزلة الرجل وانحسار مشروع العسكرة، لا محالة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.