فتور القضية الفلسطينية

فتور القضية الفلسطينية

19 مايو 2020
+ الخط -
لم تعد النكبة ذكرى، صارت واقعاً عربياً يومياً، سياسياً واجتماعياً، يعيشه الجميع. مرّت الذكرى، أعني ذكرى النكبة الفلسطينية، عابرةً، باهتةً، نخبوية، لم تجد من يستدعيها، شعراً أو نثراً أو حكياً في الدين أو السياسة أو التاريخ. لم تفلح "صفقة القرن" المزمع تمريرها، ولا أخبار نتنياهو وتصريحاته عن ضمّ مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل، في استدراج الكاتب غير الفلسطيني إلى شرك الانتباه. تحوّلت القضية من مركز اهتمام المثقف العربي إلى هامشٍ على دفتر النكسات اليومية.
لم يعرف جيل الثورات العربية التظاهرات الحاشدة في شوارع وميادين بلاده إلا عبر التظاهر من أجل القضية الفلسطينية، جيل بأكمله تربّى في حجر القضية المركزية التي تتفرع عنها بقية همومه السياسية. كان الشأن الداخلي، طوال الوقت، أهون مما يحدث في الأرض المحتلة، وكان تصريح واحدٌ يحمل "نفساً" تطبيعياً، أو تأييداً لأي مسلك سياسي رسمي باتجاه التطبيع، يعني الاغتيال المعنوي لصاحبه، اجتماعياً، بل وسياسياً. إذ كنا نتحدّث عن مستويات أدنى من رأس النظام الذي جرى التطبيع الاجتماعي مع سياساته باعتبارها سياسات اضطرارية، تلزمه ولا تلزم مجتمعه، تخصّه، ولا تخص غيره من مؤسسات الدولة.
ما زلت أذكر تصريحات الكاتب المسرحي، علي سالم، عن ضرورة التصالح مع إسرائيل والتعامل معها بوصفها دولة الأمر الواقع، وزيارته جامعة إسرائيلية، وهو ما استوجب هجوماً عنيفاً عليه من الإعلام المصري، الحكومي قبل المعارض، وفصله من اتحاد كتّاب مصر، وفرض حصار نفسي حوله، وصل إلى درجة اعترافه، بحسرة، بأن أولاده في بيته يعارضون توجهه، لكنه مضطر إلى دفع ضريبة أفكاره!
لم يتغير الأمر بعد ثورات الربيع العربي، بل زاد. شهد الخطاب السياسي المصري، لأول مرة منذ "كامب ديفيد"، رئيس الدولة في خطاب رسمي، وهو يصرخ: لن نترك غزة وحدها. وعلى الرغم من ضغط الحدث اليومي، وما عانيناه في مصر من تراجع على المستويات كافة، أمنياً واقتصادياً، فضلاً عن السياسي بطبيعة الحال، كان "الشعور" الوطني بالقضية الفلسطينية، بل والسورية في تطوراتها المؤسفة، حاضراً ومؤثراً، إلى أن فشلت التجربة، وبدأ منحنى الثورات العربية في الهبوط، وعادت الأنظمة القديمة أكثر توحشاً، وتحول الدعم الإسرائيلي إلى ضرورةٍ وجوديةٍ بالنسبة إلى الأنظمة العسكرية واستمرارها واستقرارها، فتحوّلت فلسطين، في الخطاب الإعلامي الشعبوي، إلى "خصم"، و"عدو"، وشريك في مؤامرة الثورة، فيما تحولت إسرائيل من "جار" مفروض إلى حليف وصديق، نحرص على أمنه وأمن مواطنيه، مثلما نحرص على أمننا، وربما أكثر، وتحوّل السلام "الاضطراري" إلى سلام دافئ.
لم تجد هذه البجاحة السياسية والإعلامية مقاومةً تُذكر، ذلك لأن أغلب المعارضين كانوا بين القبر والسجن والشتات المصري الذي لحق بنظيره الفلسطيني، وصارت يوميات الحياة المصرية تشبه، إلى حد كبير، نظيرتها الفلسطينية، وربما تفوقت عليها في بعض التفاصيل التي تتعلق بالسجون وحقوق السجناء. دهست الدبابات المصرية مواطنين مصريين عزّلاً، تحت دعاوى حماية الدولة المصرية، وشهدت سيناء تهجيراً قسرياً وعشوائياً لمواطنين آخرين. اعتقلت السلطات المصرية آلاف الشباب، واعترف الحاكم العسكري، في خطاب رسمي على الهواء، بأنه يعلم جيداً أن ثمّة مظلومين في سجونه. لم تشهد ميادين مصر مواجهة طفل دبابة، وعلى الرغم من ذلك اعتقلت السلطات مئات الأطفال القصّر، بسبب "تيشيرت" يحمل وسماً معارضاً، أو بالوناً، أو بوست على فيسبوك. لم تفلت شريحة مجتمعية من العقاب الجماعي، حتى مؤيدو النظام، ومباركو انقلابه، ومبرّرو مذابحه، نال بعضَهم ما نال غيرهم، لأنهم لم يؤيدوا بالقدر الكافي، وسمحوا لأنفسهم بالتنفس خارج "الهوى" العسكري.
لم يعد بالإمكان المزايدة على "مشاعر" المصريين، أو غيرهم من ضحايا "حلم الحرية"، ولومهم على فتور القضية، وغياب التضامن الواعي، كما لم يعد بالإمكان تجاوز عذابات الواقع اليومي المفروض عليهم إلى غيره. وحده المثقف الثوري الذي يدرك خطورة القضية وتأثيرها بمحيطها العربي، عليه اليوم أن يجد سبيلاً للعودة بها إلى مركز اهتمامات القارئ (والمشاهد)، ليس بإثارة مشاعره، بل بتغذية وعيه، ولعل الغد قريب.