رغم عظم البلاء

رغم عظم البلاء

18 مايو 2020
+ الخط -
قالت الأرملة التي تزوج جميع أبنائها، وظلت وحيدة: لم أعد أتبنّى مقولةً صدّقتها من قبل، "إن السعادة تكمن في القدرة على صرف الذهن"، فالمسألة طالت وزادت على حدّها، ولم يعد في مقدوري ابتداع حيل ثانية لصرف ذهني عما يحدث مدةً أطول. سئمتُ انتظار رسائل البنك عن تقاعد المرحوم زوجي، وضرورة تقيدي بالإجراءات الوقائية عند ذهابي لتسلُّم الراتب، وتتبع أوامر دفاع متضاربة تصدرها الحكومة التي خسرت رهانها على وعي الشعب، وأخبار مخترقي تعليمات الحجْر من المسبّبين لنقل الوباء إلى مخالطيهم من الأهل والجيران، سئمت أكثر من تلك النكات والطرائف والفيديوهات الكوميدية المجترّة التي يرسلها الجميع إلى الجميع، وقد فقدت طعمها وتحوّلت إلى محتوياتٍ سمجة ثقيلة الظل لفرط التكرار.
قال الشاب الجامعي الذي يعاني من ضجر قاتل، غير المتحمس للدراسة عن بعد: المفترض أن ثمّة فرقاً كبيراً بين السجين الرازح خلف القضبان يحلم بالحرية المشتهاة، حال نفاذ مدة العقوبة واضحة المعالم، والمحجور هرباً من وباء مبهم لا يؤطّره زمان أو مكان. الخطورة أن الأمر اختلط في ذهني، فلم أعد أفرّق بين الحالتين، قيد الحجْر الطويل الممل أنهكني، أبعدني عن الأصدقاء، وسلب مني حياتي التي كنت أظنها بائسة، اشتقت لكل تفاصيلها. لن أتمكّن من الصمود طويلاً، أريد استرداد إيقاع حياتي السابقة بكل ما فيها من قلق وتوجس وريبة على مستقبلٍ لم يعد واعداً إلا بمزيد من الخيبة.
قال مدير شركة في القطاع الخاص، وقد سيطر الأسى والقنوط والهلع على ملامحه: انخرب بيتي حرفياً، أوشكت على خسارة كل شيء، وأفكر في إعلان إفلاسي. الحالة أصعب مما يمكن تخيله، المدّخرات تنفد سريعاً. وقد توقف العمل تماماً، لم يعد هنالك دخل أعتمد عليه، لا أملك القدرة على تسديد أجرة المكتب وفواتيره. والحكومة تلزمني بدفع رواتب للموظفين في بيوتهم، تحت طائلة الحبس لو فكّرت في الاستغناء عن خدماتهم.
قالت الأم التي أنجبت ثلاثة أطفال، أصغرهم في الأول ابتدائي: بتّ أشفق على أولادي، وقد حُرموا مدارسهم وأصدقاءهم ومشاويرهم وزياراتهم الأقارب. ولم أعد ألومهم على تعلقهم بأجهزتهم الإلكترونية التي توفر لهم عالماً موازياً من اللعب الافتراضي، ليس لدي بديل مقنع أقدمه لهم. أقترح عليهم مشاهدة فيلم، فلا يُبدون أي حماسة، وينصرفون كلٌّ إلى عالمه البعيد الذي لا أملك فيه أي سلطة رقابية. يحزنني غياب المشترك بين أفراد أسرتي الصغيرة، وأمنّي النفس بأنها مجرد أزمة وستزول.
قالت الصبية المخطوبة: لم أصفّف شعري عند الكوافير منذ ثلاثة أشهر، لأني أعمل في شركتي عن بعد مقابل نصف الراتب. صحيح أنهم سمحوا لصالونات التجميل بمعاودة نشاطها، لكن المخاطرة كبيرة. وبالنتيجة، لمن سأهتم بمظهري، وأنا أسيرة البيت، لا أخرج منه إلا لشراء بعض الحاجيات الضرورية. خطيبي المهندس الإلكتروني، الأول على دفعته، محجور في دبي، وقد سُرِّح من الوظيفة ذات الراتب المجزي، مثل مغتربين كثيرين، بسبب ظروف كورونا. كان من المفترض أن نتزوج في هذا الصيف، وأن يصطحبني معه إلى دبي، حيث فرصة حصولي على وظيفة كانت كبيرة، غير أن أحلامنا انهارت كلها، لأن المستقبل بات مجهولاً أمامنا، وهو الآن ينفق من تحويشة الاغتراب التي أوشكت على النفاد، غير قادر على العودة، لأن الحدود مغلقة، وغير قادر على التصدّي لمتطلبات الحياة عاطلاً من العمل إلى أجل غير مسمّى.
في ظل كورونا وتداعياتها المريرة التي أثرت في كل بيت بشكل أو بآخر، سيقولون وغيرهم الكثير الكثير، وسنستمع إلى مزيد من القصص المؤلمة عن تبدّل الحال والأحوال لمن تعطلت حياتهم، وانقلبت دنياهم وتقطعت بهم السبل، على الرغم من كل ذلك السواد المحيط بنا من كل صوب، سنظل متشبثين بقشّة الأمل غير القابلة للانكسار، على الرغم من عظم البلاء.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.