المجتمع المدني في مواجهة الجائحة

المجتمع المدني في مواجهة الجائحة

17 مايو 2020

متطوعون تونسيون يشاركون في تعقيم شارع بالعاصمة (1/4/2020/الأناضول)

+ الخط -
بقطع النظر عن جاهزية الأنظمة الصحية وكفاءتها، أو قدرة السياسات العمومية على إدارة جائحة كورونا بشكل محكم واتخاذ القرار الصائب، أبرزت الجائحة الحاجة الملحّة إلى المجتمع المدني في مواجهة انتشار الفيروس والحد من تداعياته الخطيرة. بعد تردّد وارتباك ما، في البدايات، بادرت جمعيات ومنظمات غير حكومية ومبادرات مواطنية عديدة في معظم بلدان العالم إلى إطلاق حملات توعية وتقديم الخدمات والقيام بالأنشطة التضامنية إلى مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية التي كانت عرضة أكثر من غيرها، سواء للفيروس أو لانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية. فبالتزامن مع الجهود التي بذلها العاملون في الجهاز الصحي في بلدان عديدة، بدا جليا أن للمجتمع المدني وللمبادرات الخاصة، خارج الجمعيات والمنظمات، معارف ومهارات وموارد وكفاءات وشبكات مرنة للتواصل والفعل، يمكن أن تسند تلك الجهود "الرسمية" في التصدّي للجائحة. 
لم تشذّ تونس عن غيرها من البلدان في هذه القاعدة، حيث ساهم المجتمع المدني مبكّرا في إطلاق حملات التوعية في مبادراتٍ سعت إلى تعميم المعلومات في كيفية الوقاية من الفيروس، لتتكثف هذه المبادرات وتتنوع لاحقا. وتوزّعت الجهود تلك على مجالين كبيرين، حيث ضمت داخلها مقارباتٍ وأشكالا مختلفة من التضامن والتآزر والتعاطف مع المؤسسات الاستشفائية والإطار (الكادر) الطبي من جهة، ومع الشرائح الاجتماعية الأكثر تضرّرا ممن لم تستطع التكيف مع الحجْر الصحي من جهة أخرى، حيث ضيق عليهم أبواب الرزق قبل الفضاء ...
لقد أمّن آلاف المتطوعين تنظيم الطوابير أمام المؤسسات العمومية، ووزّعت الجمعيات الموائد 
الغذائية وغيرها من "المساعدات" على الشرائح الاجتماعية الفقيرة والمحتاجة، وابتكر بعض الشباب، فرادى أو ضمن جمعيات، تطبيقات ونظم تقنيات وآلات يسّرت على العاملين في المؤسسات الاستشفائية معالجة المرضى والتعامل مع الوافدين عليهم.
وقد حفّز مناخ الحرية وانفتاح الفضاء العام تلك المبادرات. ومع أهمية هذا المد التضامني الذي تجلى واضحا، فقد عملت أنظمة استبدادية عديدة على "أمننة "مكافحة الوباء، أي استفراد أجهزة الأمن والجيش، وحتى المخابرات، وحدها بإدارة الأزمة: من فرض الحجْر الصحي إلى توزيع المساعدات، مرورا أحيانا بشعائر نقل الضحايا ودفن الموتى. احتكرت السلطة، في معظم هذه الحالات جميع مراحل إدارة الأزمة على نحوٍ عمّم سلبية المواطنين، وجعلهم بمثابة القصّر الذين على الراشدين (الحكومة/ الجيش/ السلطة) التكفل بهم. تقدم الصين المثال الأبرز لهذه المقاربة، واستلهمت منها عدة بلدان بشكل أو بآخر. ولا شكّ في أن الصين عالجت إخفاقها المبكر في التصدّي للوباء وتجاوزات حقوق الإنسان التي تضاعفت خلال هذه الأزمة بكثير من التسويق السياسي والدعائي: صور مبهرة لبناء مستشفيات ضخمة في فترات وجيزة بشكل قياسي. الانضباط التام للتعاليم الصادرة عن الحزب الشيوعي الذي ابتلع الجماعات العلمية ..
لم يكن القرار الطبي في الصين سوى همسة خافتة في أذن السلطة، في حين ثار في فرنسا مثلا جدل علمي حادّ بين قرار الأطباء (المختلفين فيما بينهم أيضا) وقرار الساسة بشأن مدى صلاحية دواء كلوروكين في معالجة الوباء. فيما تم التعامل مع الوباء في الصين في مناخات صامتة، لا تشير أبدا إلى أي جدل علمي، أخلاقي، سياسي، يمكن أن يندلع في مثل هذه الحالات. في كل أنحاء العالم الحر والديمقراطي، أطلق الوباء أسئلة ملحّة تلقفها المجتمع المدني والرأي العام بشأن علاقة الإنسان بالطبيعة، المجتمع بالسلطة، الأخلاق بالعلم، العلم بالسياسة.. إلخ، إلا في الأنظمة الشمولية التي كان العلاج فيها يتم وفق آليات الإذعان التام. في هذه الحالة، تعزّز الأوبئة قبضة التسلط، ويغدو الجسد المريض ورشة لمزيد من الاستعباد والاستبعاد.
ومع أهمية كل هذا الجهد، بدا المجتمع المدني أحيانا عاجزا عن التدخل في مجالاتٍ ظلت عصية عليه، حتى في أعرق النظم الديمقراطية. لقد تنامت في هذه المجتمعات خلال الوباء ظواهر 
العنف المنزلي الذي طاول النساء والأطفال وكبار السن، علاوة على مزيد من إقصاء فئاتٍ صنفتها الأمم المتحدة الأكثر هشاشة على غرار اللاجئين والعالقين والأقليات .. إلخ، وظل المجتمع المدني عاجزا عن التدخل، لأن ذلك يحدث في الفضاء الخاص الذي سيّجته القوانين الليبرالية ذاتها، كما أن شُحّ الموارد، تحت وطأة حدّة الأزمة الاقتصادية، جعل من مَهَمَّة المجتمع المدني في سياق هذه الجائحة أكثر صعوبة، خصوصا في مجال إسعاف هذه الفئات تحديدا.
الصعوبات التي فرضها الحجْر الصحي الذي طبقته معظم البلدان، وإن بأشكال مختلفة (التضييق على الحركة، المخاطر الصحية، شح الموارد، خوف المتطوعين) قد حدّت من فعالية هذا المجتمع المدني، ومع ذلك كان التضامن الإنساني الذي أطلقته المبادرات المدنية دليلا بليغا على قيم عالية: المسؤولية، الشعور بالانتماء ووحدة المصير. تجدّد الأوبئة، في أحيانٍ كثيرة، خلايا النسيج الاجتماعي، وتعطي معانيَ عميقة لحياتنا، إذا ما كان لنا فضاء عمومي يحتضن كل هذا "اللغط البليغ".

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.