أسئلة ما قبل الانتقال الديمقراطي في السودان

أسئلة ما قبل الانتقال الديمقراطي في السودان

17 مايو 2020
+ الخط -
بقدرِ ما عُرف عن السودانيين نجاحاتهم المبهرة في إزاحة الأنظمة العسكرية والشمولية في ثورات شعبية سلمية، بقدر ما عُرف عنهم فشلهم في تأسيس نظام ديمقراطي مستدام عَقب تلك الثورات؛ فكما هو معروف أطاح السودانيون، في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، حكم الرئيس إبراهيم عبود، وفي إبريل/ نيسان 1985، حكم الرئيس جعفر نميري، وفي إبريل/ نيسان 2019 حكم الرئيس عمر البشير، لكن الحكم الديمقراطي التعددي في المرتين، الأولى والثانية، لم يستمر أكثر من أربع سنوات، أي لم يكمل دورة انتخابية، وها هو في المرة الثالثة يتعثر، وهو بعدُ في عام الانتقال الأول، الأمر الذي يشير إلى كِبر حجم المعضلات التي تقف في طريقه.
ظلت القضايا التي شكلت أبرز شواغل السودانيين عندما نالت بلادهم استقلالها تلازمهم طوال سنوات الحكم الوطني، باختلاف أنظمتها، وظل كل نظام حكم يورثها للذي يليه، بعد أن يزيدها تعقيداً؛ يصحّ هذا القول، عند الحديث عن قضية الحرب الأهلية والسلام الداخلي، وعند قضية التنمية المتوازنة، وعند قضية الدستور ونظام الحكم وتأسيس النظام الديمقراطي المستدام. ويكفي القادة والنخب السياسية فشلاً أنهم بعد مضي 64 عاماً من الاستقلال لم يتفقوا على دستور دائم، يُفصّل كيف يُحكم السودان وكيف يُدار، ولا على منوال تنموي يستنهض قدرة الشعب للإنتاج والتصنيع، ويهيئ فرصاً للعيش الكريم لشعبهم، في بلد هو مضرب الأمثال في اكتناز الثروات فوق الأرض وفي باطنها، ولا على ترسيخ عُرى التواشج وقيم العيش المشترك بين شعب متعدّد الأعراق والثقافات والأديان.
لقد مرّ أكثر من عام، منذ حطّ السودانيون أحمالهم التي لازمتهم أكثر من ستة عقود في فضاء 
ثورة جديدة، نجحت في إسقاط النظام، لكنها وجدت أن الأحلام التي راودت جموع الناس حينها، وظنوا أن ليس بينهم وبينها إلا تلك الخطوة، ما تزال بعيدة المنال، فلا السلام الذي ظنته الجماهير على بعد أسابيع أو أشهر قليلة تحقق، ولا العدالة التي كانوا ينتظرون البدء الفوري في ترسيخ نظامها وقيمها قد تحرّكت نحو مربع جديد، ولا حتى الحرية التي تعالت أصواتهم للمطالبة بها تمت إعادة تأسيسها على هدي الأنظمة الديمقراطية، وبدأت ممارستها على نحو مختلف؛ بل حتى مؤسسات الحكم الانتقالي التي تمّ إقرارها في الوثيقة الدستورية، والتي كان من المفترض أن تحدّد كيفية الاستجابة لمطالب الثورة، لم يَر أهمها النور بعد، كما في حال المجلس التشريعي المعيّن والحكام المدنيين للولايات؛ ولعلّ مردّ ذلك لا يعود فقط إلى اختلاف الرؤى والمناهج بين مكونات التحالف الذي يسيّر الوضع الانتقالي الجديد، وإنما أيضاً بسبب عدم الإدراك الكافي للقائمين عليه لتعقيدات الوضع الداخلي والعناصر المؤثرة فيه.
أول الأخطاء التي وقع فيها الائتلاف الذي تصدّى لقيادة البلاد بعد إطاحة النظام، سواء منه من كان جزءاً أصيلاً من بدايات الثورة أو مَن التحق بالمسيرة الثورية في مراحلها اللاحقة، هو عدم قدرته على ترتيب أولويات الثورة واحتياجات الناس على نحو سليم، ومثال ذلك استهانته بالوضع الاقتصادي المتردّي، وما يتصل به من تأمين الحدّ الأدنى للعيش الكريم للناس، على الرغم من الإدراك المفترض لهذا التحالف بأن ما أشعل فتيل الثورة هو المعاناة المتطاولة التي لازمت حياة السودانيين، وفشل الحكومة السابقة في توفير الخبز والوقود والنقود، كما كان الناس يصفون أبرز مظاهر الأزمة حينها؛ لقد ثبت أن الخطاب الثوري الذي يداعب أحلام الثائرين، ويعلّق كل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها السودانيون على مشجب النظام السابق، بما فيه من فساد أو سوء إدارة، وأن الحل في ذهاب النظام، لم يستطع أن يصمد طويلاً أمام الحقائق على أرض الواقع، فالأزمة أعمق من ذلك بكثير، ومن المفترض أن يكون التصدّي لها أشمل ممّا هو حادث.
ظل السودان يرزح، أكثر من ربع قرن، تحت حصار سياسي واقتصادي أميركي بأجندة متحرّكة، تارّة بحجة هوية النظام السابق الإسلامية، وتارّة بمزاعم دعمه الإرهاب، وقد بلغ ذلك الحصار درجة التحريض العلني من وزارة الخارجية الأميركية لغزو السودان بواسطة جيرانه، كما حدث في ما عُرف بعملية الأمطار الغزيرة في 1997، وقصف الخرطوم بصواريخ توماهوك كما في 1998، بل بلغ أكثر من ذلك أن الحصار الأميركي منع البنوك في مختلف أنحاء العالم من 
التعامل مع النظام المصرفي في السودان، وأوقع عقوبات قاسية على مَن لم يلتزموا بذلك. وتكفي الإشارة هنا إلى أن السودان كان محروماً من استجلاب احتياجاته الكبيرة والصغيرة، من قطع الغيار لطائرات الخطوط الجوية وقطارات السكة الحديد، ومن حضانات الأطفال وماكينات علاج السرطان، والسبب أن كل هذه الاحتياجات تنتجها شركات أميركية أو شركات تساهم الولايات المتحدة بأكثر من 5% من رأسمالها، وحتى في حالة المعدات التي لا ينطبق عليها ذلك لا تسمح الإدارة الأميركية بأي تحويلات مالية من السودان وإليه بعملة الدولار الأميركي.
لقد توهم من تولوا قيادة الثورة السودانية أن الحصار الاقتصادي الأميركي مرتبط بطبيعة النظام الذي كان حاكماً، وأنه بمجرد زوال النظام ستُسقط الإدارة الأميركية تلك العقوبات تلقائياً، وأن المعونات الخارجية والاستثمارات ستتدفق على السودان، وتتحول حياة السودانيين، بين عشية وضحاها، من شظف العيش إلى رغده، من دون أن ينتبهوا إلى أن هناك الكثير جداً مما عليهم فعله، لترتيب الوضع الداخلي، ووقف التدهور الحادث، قبل التطلع إلى عون الآخرين أو استثماراتهم. وقد زاد من بِلة الطين الانحياز المندفع، وغير الرشيد، لأحد محاور التنافس الإقليمي في المنطقة، الأمر الذي أفقد البلاد فرصتها في استقطاب القدر الأكبر الممكن من عون الدول الشقيقة والصديقة، وجعل سياستها الخارجية عرضةً للضغوط والتأثير الذي من شأنه أن يحرفها عن بلوغ أهداف الثورة في الحرية والكرامة.
الخطأ الأبرز الثاني تفريط مَن آلت إليهم قيادة الثورة السودانية في استغلال زخم الثورة الأول 
لإدارة حوار وطني عميق بين أكبر عدد ممكن من مكونات الشعب السوداني، السياسية والثقافية والاجتماعية، يتم الاتفاق فيه على أولويات الفترة الانتقالية وكيفية إدارتها، ومن أسفٍ أن عكس هذا تماماً هو ما حدث، حتى إن تحالفاً، مثل تحالف الجبهة الثورية، يضم، في مكوناته، المجموعات الحاملة للسلاح، وجد نفسه خارج دائرة التأثير الفعلي في وقتٍ كان يتم التأكيد أنه جزء من تحالف قوى الحرية والتغيير؛ الأمر الذي جعل قضية السلام التي هي إحدى أولويات الثورة تتعثر خطوات بلوغها وتتباعد المسافات نحوها، وينعكس ذلك سلباً على الأولويات الأخرى، بما في ذلك رفع اسم السودان من القائمة الأميركية لدعم الإرهاب.
قد يقول قائل إن السودانيين بحاجة إلى "ثورة" لإعادة تصحيح مسار ثورتهم، ولئن أصبح هذا المطلب يلقى رواجاً، إلا أن الفرصة ما زالت ممكنة، أن ينتصح القائمون بالأمر بنصح الحادبين، على الرغم من أن هذه الفرصة تضيق، وأن يصحح أولئك مسيرهم بإعادة ترتيب أولويات مرحلة الانتقال، وإعادة تشخيص مشكلاتها لمعرفة جذورها الحقيقية، ووضع الحلول التي تناسبها، قبل أن تضيق خيارات المعالجة، فيلجأ الشعب الى آخرها، وأن يتذكّروا (وهذا هو الأهم) أنه ليس مطلوباً من أي وضع انتقالي أن يعالج كل المشكلات، بل عليه أن يرسم طريقاً لأفضل الخيارات التي من شأنها أن تمكّن الناس من اختيار من يحكمهم بكامل إرادتهم الحرّة.