هل تسفر جائحة كورونا عن عولمة عادلة؟

هل تسفر جائحة كورونا عن عولمة عادلة؟

14 مايو 2020
+ الخط -
بات مؤكّدا أن وباء كورونا المستجد أحدث سلسلة من الصدمات والضربات التي زعزعت مجموعة من المنظومات الصحية والاقتصادية والاجتماعية القوية والعريقة في عدد من دول العالم المتقدم، وأفرز أسئلة مقلقة بشأن مصير البشرية، ومدى استعدادها لمواجهة جائحة عالمية، يقف وراءها فيروس مجهري غامض وكاسح وفتاك، ويمتلك سرعةً فائقةً في الانتقال والتفشّي، خصوصا في وقت، ما زالت الأبحاث الطبية والعلمية لم تتوصل إلى ضبط سلوكه وطرق انتقاله بالدقة المطلوبة، الأمر الذي يجعل عملية اكتشاف لقاح لإنقاذ مليارات الأشخاص من الهلاك عملية معقدة وممتدة في الزمان.
كما أن هذا الوباء غير المسبوق في التاريخ، من حيث شموليته وكونيته، طرح بحدّة إعادة النظر في عدد من المسلمات السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وهذا ما فرض بشكل جدي وحتمي، ضرورة إعادة النظر في ترتيب الأولويات وصياغة الاستراتيجيات عالميا، وفي مقدمة هذه الأولويات اعتبار البحث العلمي، بكل أنواعه، اختيارا استراتيجيا لا رجعة فيه، والتعاطي مع قطاعي الصحة والتعليم بمنظور جديد ومغاير تماما، يتأسس على أن الصحة والتعليم هما حصانة أي مجتمع ومناعته وحمايته. كما أن المراجعة الجذرية للسياسات الاجتماعية والاقتصادية والإنتاجية أصبحت مسألة حيوية ومركزية لا محيد عنها. ومن هنا، جاء التفكير في مختلف الدول في حتمية حزمة إجراءات فعالة وعاجلة، تتعلق بقضية التشغيل وتحسين مستوى عيش شرائح اجتماعية عريضة، وضمان حقها في الحماية الصحية، خصوصا وأن وباء كورونا المستجد كشف عن حجم التحدّيات التي تطرحها هذه الشرائح أمام الدولة والمجتمع على حد سواء، سيما في الدول النامية التي لا تتوفر على القدرات والبنيات الكفيلة بالتصدّي لهذا العدو الخفي.
وإذا كانت الهشاشة الاجتماعية، والفروق الصارخة، ومختلف أشكال الخصاص، ومظاهر الفساد، وغياب الحكامة الرشيدة في تدبير الشأن السياسي، وانعدام الشفافية في المجال الاقتصادي، هي 
السمات التي تطبع الجزء الأكبر من الدول الأفريقية وبعض الدول العربية، فإن الوضع يزداد تعقيدا وتداخلا، في ظل احتداد وباء كوفيد – 19. وفي هذا السياق، ينبغي على مختلف الأنظمة السياسية تغيير البراديغم (النموذج) الذي اشتغلت بموجبه عقودا، واعتماد مقاربات جديدة في ميدان التنمية البشرية والبيئة والخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم، لأن المعطيات الراهنة والمتغيرات التي فرضتها جائحة فيروس كورونا المستجد في كل المجالات تستدعي إدراج كل هذه العناصر وإدماجها، والاقتداء بها والتفكير بتفاعل معها. وما دمنا بصدد الحديث عن الظرفية الحرجة والدقيقة التي تجتازها البشرية، فإن المعايير نفسها يجب أن تنطبق على النسيج الاقتصادي وسلاسل الإنتاج، ففي سياق الأزمة الكونية الراهنة، أسس العولمة ومعاييرها، بما في ذلك النيوليبرالية الموروثة عن المذهب الكلاسيكي التي كان يلخصها شعار "دعه يعمل ودعه يمر" من المفروض أن يُعاد النظر فيها بصورة جذرية وعميقة. ويلاحظ تاريخيا أن الكوارث والأزمات غالبا ما تنطوي على إمكانات وفرص، يمكن استثمارها قصد بناء عولمة عادلة وذات مصداقية في كل المجالات.
وفي هذا السياق، على دول القارة الأفريقية والدول العربية المتطلعة إلى دمقرطة نظمها وحياتها السياسية، وإحداث قطيعة بنيوية مع زمن ما قبل وباء كوفيد – 19، أن تساهم في بناء العالم الجديد، لكي لا تبقى عملية صياغة المفاهيم والتصورات والمسلمات، ورسم المسارات والسياقات البديلة، محتكرة من القوى العالمية التقليدية. وهذه الدول مطالبة بالتكيف مع الأوضاع العالمية المستجدّة كيفما كانت نتائجها وآثارها الجانبية، مع ما يقتضيه ذلك من اعتماد خياراتٍ، من شأنها مواجهة المقاربة الجائرة التي اعتمدها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، في إطار سياسة التقويم الهيكلي، فعوض مرافقة ديناميات الاقتصادات في هذه الدول ومتطلباتها، والتي كان من الممكن أن تنتج حركة من الاستثمارات المنتجة لمواجهة مختلف التحدّيات والأزمات، وتجاوز سوء التدبير في شتى القطاعات، وضعف التقاليد الديمقراطية على المستوى السياسي، وغياب الحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الصحافة، فإن هذه المؤسسات المالية الدولية عمدت، منذ بداية الثمانينات، إلى فرض تدابير وإجراءات تقشفية، أنتجت اختلالات هيكلية وفروقا اجتماعية، وتسببت في انهيار المنظومات الصحية والتربوية، وتقليص فرص الشغل والتوظيف. وتأسيسا على هذه المؤشرات، ظهر جليا أن مبدأ السيادة الاقتصادية والإنتاجية أصبح اليوم عنصرا أساسيا في مواجهة الكوارث والأزمات المستجدة، خصوصا عندما تغلق الحدود، وتشل حركة النقل الجوي، وتعطل دورة الإنتاج في العالم.
لقد قفز مفهوم الدولة الوطنية ودولة الرعاية إلى الواجهة، وانصبّ الاهتمام عليه بشكل غير 
مسبوق، وحتى عتاة النظام الرأسمالي والنيوليبرالية المتوحشة، وأنصار اقتصاد السوق وخصخصة كل شيء، والجيل الجديد من الشعبويين اليمينيين، اقتنعوا بأن القطاعات الاجتماعية الأساسية يجب أن تبقى تحت سيادة الدولة. وظهر أيضا أن القطاع الخاص بدون الدولة لن تكتب له الحياة، ولن تضمن له الاستمرارية، وهذا ما دفع خبراء إلى دعوة هذا القطاع، بعد الخروج من هذه الأزمة، إلى إحداث تغييراتٍ عميقةٍ في سلوكه الاقتصادي وعلاقته بالمجتمع والدولة، وأيضا في السلوكات والعادات التي درج عليها، لأن الأرباح مهما كانت ضخمة وكبيرة، لن تكون لها أية دلالة إيجابية، إذا لم تساهم مقاولات القطاع الخاص ومؤسساته، في تقوية الاستقرار الاجتماعي والسياسي ودعمه، وتطوير البحث العلمي في العالم، وترجمة مبدأ التضامن على أرض الواقع، وضمان حقوق الأجراء وتحسين أوضاعهم المادية والمعنوية.
التفكير في احتواء تداعيات جائحة فيروس كرونا المستجد بمنطق إيجابي، جديد وواقعي في الوقت نفسه، مستند إلى إرادة التفاؤل في ما سيواجه البشرية من مشكلات وأزمات مستعصية، الهدف منه، بالدرجة الأولى، تجاوز أزمة المصداقية والثقة التي باتت ثغرة كبيرة في منظومة العلاقات الدولية التي أبانت، في عز هذه الجائحة، عن سلوكٍ مطبوع بالأنانية والفردانية والانطواء على الذات، ما غيب قيم التضامن والتعاضد والتعاون في مكافحة تفشّي فيروس، لم يسلم من التوظيف السياسي وتصفية الحسابات الجيو سياسية والاقتصادية والتجارية، خصوصا بين الولايات المتحدة والصين.