ابن الأصول في الزمن الرديء

ابن الأصول في الزمن الرديء

14 مايو 2020

(ضياء العزاوي)

+ الخط -
أطلق الله حرّية الإيمان والكفر، فما بالك بحرّية الإنسان أمام كينونة جسده، وتحديد مصير تلك الكينونة وهويته معا، وتلك بديهية لا غنى عنها في الحديث عن موضوع تحول "نورا"، ابنة الممثل هشام سليم، إلى ابنه "نور"، وأيضا كي لا نقع تحت طائلة الحجْر على حرّية الإنسان، مهما كانت، وسبل اختياراته.
ولكن فقط منظور نقاشنا هو إعلان هشام سليم نفسه بدلا من نور، عن هذا التحول وعن هذا الاختيار، مع ترك حرّية الفرح للاثنين بهذا الاختيار.
موضوع نقاشنا فقط هو الإعلان وتوقيته، خصوصا أن السيد عبد الفتاح السيسي كان قد تكفّل هو الآخر، من سنة تقريبا أو أكثر، بأن يزفّ للعالم عن حالة مشابهة مع اختلافٍ ما، بفضل عبقريته بالطبع، وليس بفضل مباحث الإعداد، وهي تلك السيدة الصعيدية الحاجة صيصة، والتي عملت من نفسها رجلا، واشتغلت في أشقى مهنة، وهي المعمار، ثم مسح الأحذية، سنوات، كي تربي وتدافع وتصون كرامة ابنتها الوحيدة، بعدما مات والد البنت، وهي في بطن الحاجة صيصة، وكانت في الحادية والعشرين من عمرها، فعاشت للابنة كأم وأب بملابس الرجال 43 سنة، والشيء بالشيء يُذكر. حالة هذه السيدة الصعيدية وحالة الممثل هشام سليم مع ابنه هما صلب النقاش والتأمل.
لاحظ أن الحاجة صيصة لم تأخذ أي هرمونات للذكورة، ولا لاستنبات شعر اللحية أو الشارب، ولم تذهب إلى أي طبيب كي يساعد الهرمونات على ضمور انتفاخ الثديين أو تكوين وتقوية المقانص والعضلات لديها، فقط تعمل وتشقى وتعود إلى البيت. ولا ركبت يختا في البحر الأحمر كي تعلن عن فتح عكا. ولا قابلت إيناس الدغيدي في "شيخ الحارة"، كي تعلن عن عدم أخذ فرصة في خريطة رمضان، ولا أي شيءٍ من هذا كله، بل حافظت على أنوثتها الداخلية، تحت الجلباب، سنوات، فقط، ارتدت الجلباب الصعيدي والطاقية والعمامة، وعملت بالمعمار، ولم تكلم أي وكالة صحافية؛ لأنه ليس لديها تليفون أرضي أو موبايل (اللهم إن كان السيد الرئيس قد رمى عليها حتة نوكيا بعدما أحضرت إلى الرئاسة مع فريق الإعداد). وليس لديها أية مصانع ملابس جاهزة في الساحل الشمالي أو شرم الشيخ ولا قرى سياحية، ولا أرصدة في أي بنك، وليس لديها أية عضوية في النادي الأهلي أو الجزيرة، ولم تجلس وهي صغيرة على حجر ماما فاتن حمامة أو عمر الشريف، فقط كانت تبدأ عملها في الصباح، وتجلس على أكوام الرمل أو الزلط، وفي آخر اليوم تأخذ فلوس اليومية، وتعود إلى ابنتها الوحيدة.
43 سنة والحاجة صيصة كما هي، الجلباب نفسه، والعمامة نفسها، حتى عرفت الميديا طريقها في العام 2014 إلى استديوهات منى الشاذلي، وبدأ توريدها كنوع من كفاح المرأة أمام توحش الرجل وجبروته، حتى انتهت إلى السيد الرئيس.
السؤال هنا: بما أن الحياة مسؤولية من يعيشها فقط .. لماذا لم يعلن السيد "نور" بنفسه عن حالته، خصوصا وهو في السادسة والعشرين من عمره، وفي كامل أهليته، ومن عائلة محترمة وكريمة، ولها تاريخ مديد في الطب والاستقامة ولعب كرة القدم، ولم يُغرها تركي آل الشيخ بالملايين أو الساعات غالية الثمن، ولا باعت اسم النادي الشرفي له نظير المال، وجدّه هو الرجل المهيب الجانب ولاعب الكرة السابق والممثل أيضا، صالح سليم، وهو الرجل العزيز الأنفة على ناديه (النادي الأهلي)، والكاره جدا لأي تكسّب من وراء كرامة النادي. وتحضرني حادثة توضح ذلك، حينما أراد شوبير أن يحضر إلى مباراة تكريمه حبايبه من الأثرياء العرب، كي يحصل على الهدايا منهم في عقر النادي، نهره صالح سليم بشدة، وقال له: "النادي أكرمك، وعاوز تعمل حاجات تاني تخصّك، ده برّه النادي".
أمَا كان لهذا الأمر الذي يخص حفيده نور أن يتم أيضا داخل جدران الأسرة الكريمة، وبعيدا عن الإعلان.
ما زلنا أمام طبقةٍ في مصر محيّرة بالفعل، وما زلنا أيضا أمام طبقة فقيرة جدا (طبقة الحاجة صيصة) محيرة هي الأخرى بقوة، في صمودها أمام شراسة الفقر، فكيف تحمّلت الحاجة صيصة "سرّها" 43 سنة بكل هذا الكتمان، وشالت سرّها الجميل هذا وربت ابنتها، وكيف لم يتحمّله هشام (سر ابنه) سنوات قليلة؟!