اللاجئ الذي ركض

اللاجئ الذي ركض

13 مايو 2020
+ الخط -
لم أنسَ الأذى النفسي الذي يلاحقني، منذ صغري؛ كوني سُجِّلت لاجئة، ببطاقة زرقاء، في مدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وكذلك حملي رقما متسلسلا في بطاقة أخرى، خاصة بالخدمات الصحية التي تقدِّمها الوكالة. ويبدو أنني كنتُ مرغمةً على سماع الحكايات التي كانت تُروى أمامي من الكبار، عن أيام اللجوء الأولى في الخيام، والأسى يعتصر قلبي الصغير، ولكني حين كبرت أيقنت أن البهجة التي تحدَّث عنها الكبار، فرحين بالـ" بُقْجِة"، هي البهجة نفسها التي يفرح بها اللاجئون اليوم، حين يحصلون على طرد غذائيٍّ، على فترات، وفي المناسبات. ويبدو أن الجوع هو أشدُّ وأقسى من كلِّ القضايا، وقد أصبح على مرِّ الزمان (72 عامًا من نكبة فلسطين) الطرد الغذائي حقًّا مشروعًا، يجب الدفاع عنه، في أنظار كثيرين من الفقراء والمحتاجين. 
بدأ الطَّرْد الغذائي مع بداية النَّكْبة، حين حطَّ الفلسطينيون رحالهم في المخيَّمات، بعد تهجيرهم قسْرًا، من قُراهم ومدنهم. وفي البداية، كانت توزِّع تلك الطرود منظمةُ الصليب الأحمر الدولي، قبل أن تتولَّى وكالة الغوث الأممية تلك المهمة في العام 1949، وأصبح الطرد الغذائيُّ الذي يوزَّع كلَّ فترة، بحسب ميزانية الوكالة، وما تتلقَّاه من دعم، نمط حياة بالنسبة للمهجَّرين، يميِّزهم عن غيرهم من المواطنين، أصحاب القرى والمدن التي استقرَّ حولها اللاجئون، وأقيمت المخيَّمات على تخومها. ولذلك أصبح الطرد الغذائي، والذي اتَّسع ليشمل الملابس والأحذية أيضاً، وسيلة للمقايضة والبيع "على العميان"، يعني أن يبيع أحدُهم الطرد، وكان يسمَّى "البقجة"، من دون أن يعرف ما في داخلها، وقد يخسر، وقد يربح، مقابل البيع، أو المقايضة.
ولأن كلَّ أزمة تفرز تُجَّارًا، فقد ظهر التجار الذي يشترون البُقَج (جمع بقجة)، والذين يستغلُّون حاجة الناس، في ذلك الوقت، فيحصلون منهم على البقجة التي استلموها، من دون أن يعرفوا قيمة محتوياتها، ثم يتم فتحها، وفرزها، وبيع محتوياتها فرادى، ولا يتركون شيئًا، من دون استغلال، حتى الأكياس المصنوعة من الخيش التي كانت توضَع فيها محتويات المعونة، لها طريقة لاستغلالها وبيعها. وهكذا أصبح وقت استلام البقجة موعدًا لإجراء المعاملات التجارية، وتحصيل الحقوق، وردّ الديون من الفقراء وإليهم، وشراء مستلزمات ضرورية غير التي تحتويها البقجة، خاصة للأُسَر التي تمتلك البنات، واللواتي أصبحن في سنِّ الزواج.
مرَّ الطرد الغذائي بتحوُّلات كثيرة، وبعد النكبة بسنوات، قررت المنظمات الفلسطينية التي ظهر نشاطها، وأحيت القضية الفلسطينية، أن تعزِّز صمود اللاجئين، خصوصا أن العائلات الفلسطينية الفقيرة انخرط شبابها في صفوف المقاومة، وتعرَّضوا للاعتقال، أو الموت، على يد الاحتلال، فكان لا بدَّ من تقديم الدعم لعوائلهم، عن طريق الطرود التي أصبحت على شكل صناديق من الكرتون.
ما أشبه اليوم بالبارحة! والذكرى الـ72 لنكبة فلسطين تمرُّ على الشعب الفلسطيني، هذه الأيام، حيث يعيش أسوأ الأحوال، سواء في الداخل، أو في الشتات، ولا تزال الطرود تلاحق الشعب المنكوب، وتغيَّر الاسم، وبقيت الصفة، ووصل الاسم المُحسَّن لما يُعرَف بـ"القسائم الشرائية"، وتداول الناس الفقراء الذين دكَّهم الفقر، وأنهكهم الحصار، خصوصا في غزة، اسمًا آخرَ للطرود، الكوبونة، فما إن يبدأ شهر رمضان، حتى يبدأ اللاجئ، وغير اللاجئ، بالرَّكْض نحو مراكز توزيع "الكوبونة".
بكلِّ حزنٍ، يمكن القول إن الفلسطيني الذي يحصل على "الكوبونة" في الوقت الحالي قد ودَّع الحياة الماضية التي عاشها الفلسطيني، حيث عاش الفلسطيني في أجمل المدن والقرى التي تعجُّ بالخيرات، والتي تغنَّى بخيراتها الشعراء والمغنُّون، وأسهمت في تطوُّر الحضارة الإنسانية، على مرِّ التاريخ. وأنَّ تأصيل ثقافة "الكوبونة"، أو الطرد الغذائي، باسمه القديم (البقجة) ما هو إلا أسلوب سياسيٌّ للجهات المانحة؛ بغرض تنفيذ سياسة الاحتلال الإسرائيلي، وتثبيتها، وإقرارها باستمرار الفقر والجوع، وانتظار توزيع المساعدات؛ بدلًا من إقامة المشاريع لتشغيل العاطلين، على سبيل المثال.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.